يتعرّض له ألبتّة ، ولم يتعرّض لها صاحبها أيضا ، وكلّ ذلك إنّما كان ؛ لأنّ الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام.
فصل
قال القرطبي (١) : ذكر العلماء في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس ، أنّ الله تعالى خلق الخلق على سليقة الآدميّين ، من التّحاسد ، والتّنافر ، والتّقاطع ، والتدابر ، والسّلب ، والغارة ، والقتل ، والثّأر ، فلم يكن بدّ في الحكمة الإلهيّة أن يكون مع الحال وازع يحمد (٢) معه المآل ، فقال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فأمرهم الله تعالى بالخلافة ، وجعل أمورهم إلى واحد يمنعهم من التّناوش ، ويحملهم على التّآلف من التّقاطع ، وردّ المظالم عن المظلوم ، ويقرّر (٣) كلّ يد على ما تستولي عليه.
واعلم : أنّ جور السّلطان عام واحد أقلّ أذاه (٤) كون النّاس فوضى لحظة واحدة ، فأنشأ الله تعالى الخليقة لهذه الفائدة ، لتجري على رأيه (٥) الأمور ، ويكف الله تعالى به عادية الأمور فعظّم الله تعالى في قلوبهم البيت الحرام ، [وأوقع في قلوبهم هيبته](٦) وعظّم بينهم حرمته ، فكان من لجأ إليه معصوما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].
قوله «ذلك» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الحكم الذي حكمناه ذلك لا غيره.
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : ذلك الحكم هو الحقّ لا غيره.
الثالث : أنه منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه السّياق ، أي : شرع الله ذلك ، وهذا أقواها ؛ لتعلّق لام العلّة به ، و «تعلموا» منصوب بإضمار «أن» بعد لام كي ، لا بها ، و «أنّ الله» وما في حيّزها سادّة مسدّ المفعولين أو أحدهما على حسب الخلاف المتقدّم ، و (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) نسق على «أنّ» قبلها.
فإن قيل : أيّ اتّصال لهذا الكلام بما قبله.
قيل : لمّا علم في الأزل أنّ مقتضى طباع العرب الحرص الشّديد على القتل والغارة ، وعلم أنّ هذه الحالة لو دامت بهم ، لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه ، وأدّى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلّيّة ، دبّر في ذلك تدبيرا لطيفا ، وهو أنّه تعالى ألقى في قلوبهم تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه ، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١٠.
(٢) في أ : يحمل.
(٣) في أ : وتقدر.
(٤) في أ : إيدائه.
(٥) في أ : ذاته.
(٦) في أ : مما وقع في تقويم هيبته.