القول اختاره القفّال (١) ، وسمّيت اليمين شهادة ؛ لأنّها يثبت بها الحكم بما يثبت بالشّهادة ، واختار ابن عطيّة (٢) هنا أنّها الشّهادة التي تحفظ فتؤدّى.
فصل في سبب نزول الآية
وسبب نزولها ما روي : أنّ تميم بن أوس الدّاريّ وعديّ بن زيد كانا نصرانيين ، خرجا من المدينة إلى الشّام للتجارة ، ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما مهاجرا ، فلمّا قدموا إلى الشّام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع ، وألقاه في جوالق ، ولم يخبر صاحبيه بذلك ، فلمّا اشتدّ مرضه ، أوصى إلى تميم وعديّ ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات «بديل» ، ففتّشا متاعه ، وأخذا منه إناء فضّة منقوشا بالذّهب ، فيه ثلاثمائة مثقال من فضّة فغيّباه ، ثم قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة ، فدفعا المتاع إلى أهل البيت ، ففتّشوا وأصابوا الصّحيفة ، فيها تسمية ما كان معه ، فجاءوا تميما وعديّا ، فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتّجر تجارة؟ قالا : لا ، قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا : لا ، فقالوا : إنّا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه ، وإنّا قد فقدنا منها إناء من فضّة مموّها بالذّهب ، فيه ثلاثمائة مثقال فضّة فقالا : ما ندري ، إنّما أوصى لنا بشيء ، وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ، وما لنا علم بالإناء ، فاختصموا إلى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم فأصرّا على الإنكار ، وحلفا فأنزل الله هذه الآية (٣).
قوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) : هذه الآية وما بعدها من أشكل القرآن حكما وإعرابا وتفسيرا ، ولم يزل العلماء يستشكلونها حتى قال مكيّ بن أبي طالب (٤) في كتابه المسمّى ب «الكشف» : «هذه الآية في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي في القرآن وأشكلها ، قال : ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر» ؛ قال : «وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد» ، وقال ابن عطية (٥) : «وهذا كلام من لم يقع له الثّلج في تفسيرها ، وذلك بيّن من كتابه» ، وقال السّخاويّ : «لم أر أحدا من العلماء تخلّص كلامه فيها من أولها إلى آخرها» ، وقال الواحديّ : «وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن معنى وإعرابا وتفسيرا» قال شهاب الدين (٦) : وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها ممّا يختصّ بهذا الموضوع ، وبالله الحول والقوة.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٢٤.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٢.
(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٤٢) حديث (٣٠٦٠) والطبري (٥ / ١١٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٠٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس عن تميم الداري.
(٤) ينظر : المشكل ١ / ٤٢٠.
(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٠.
(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢٤.