٤٦] ، أي : مقامه بين يدي ربّه ، والعرب تحذف كثيرا ذكر «ما» و «من» في الموضع الذي يحتاج إليهما فيه ؛ كقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) [الإنسان : ٢٠] أي : ما ثمّ ، وكقوله : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] و (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] أي ما بيني ، وما بينكم ، وقول أبي حيّان (١) «لا يتخيّل فيه تقدير «ما» إلى آخره» ممنوع ؛ لأنّ حالة الإضافة لا تجعلها صلة للموصول المحذوف ، ولا يلزم من ذلك : أن تقدّرها من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب ؛ نظرا إلى الأصل ، وأمّا حذف الموصول ، فقد تقدّم تحقيقه.
فصل
واختلفوا في هاتين الآيتين ، فقال قوم : هما الشّاهدان يشهدان على وصيّة.
وقال غيرهم : هما الوصيّان ؛ لأنّ الآية نزلت فيهما ؛ ولأنّه قال : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ) ، ولا يلزم الشّاهد يمين ، وجعل الوصيّ اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشّهادة بمعنى : الحضور ، كقولك : «شهدت وصيّة فلان» ، بمعنى : حضرت وشهدت العين ، وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢] يريد الحضور.
فصل
وقوله : «ذوا» صفة لاثنين ، أي : صاحبا عدل ، وكذلك قوله «منكم» صفة أيضا لاثنين ، وقوله : «أو آخران» نسق على اثنين ، و (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة لآخرين ، والمراد ب «منكم» من قرابتكم وعترتكم ، ومن غيركم من المسلمين الأجانب ، وقيل : «منكم» من أهل دينكم ، و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الذمة ، ورجّح النحّاس (٢) الأول ، فقال : «هذا ينبني على معنى غامض في العربية ، وذلك أنّ معنى «آخر» في العربية من جنس الأوّل تقول : «مررت بكريم وكريم آخر» ولا يجوز «وخسيس آخر» ولا : «مررت بحمار ورجل آخر» ، فكذا هاهنا يجب أن يكون «أو آخران» : أو عدلان آخران ، والكفار لا يكونون عدولا» وردّ أبو حيان ذلك ؛ فقال : «أمّا ما ذكره من المثل ، فصحيح ؛ لأنه مثّل بتأخير «آخر» ، وجعله صفة لغير جنس الأوّل ، وأمّا الآية ، فمن قبيل ما يقدّم فيه «آخر» على الوصف ، واندرج «آخر» في الجنس الذي قبله ، ولا يعتبر وصف جنس الأول ، تقول : «مررت برجل مسلم وآخر كافر ، واشتريت فرسا سابقا ، وآخر بطيئا» ، ولو أخّرت «آخر» في هذين المثالين ، فقلت : «مررت برجل مسلم كافر آخر» ، لم يجز ، وليس الآية من هذا ؛ لأن تركيبها «اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم» ف «آخران» من جنس قوله «اثنان» ، ولا سيما إذا قدّرته : «رجلان اثنان» ف «آخران» هما من جنس قول ه «رجلان اثنان» ، ولا
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤.
(٢) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٢٥.