الثاني من وجهي النصب : أنه منصوب بإضمار «أن» بعد «أو» ، ومعناها هنا «إلّا» ؛ كقولهم : «لألزمنك أو تقضيني حقي» ، تقديره : إلّا أن تقضيني ، ف «أو» حرف عطف على بابها ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وجوبا ، و «أن» وما في حيّزها مؤوّلة بمصدر ، ذلك المصدر معطوف على مصدر متوهّم من الفعل قبله ، فمعنى : «لألزمنك أو تقضيني حقي» : ليكوننّ منّي لزوم لك أو قضاؤك لحقّي ، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها ؛ وإلّا خافوا ردّ الأيمان ، كذا قدّره ابن عطية (١) بواو قبل «إلّا» ، وهو خلاف تقدير النحاة ؛ فإنّهم لا يقدّرون «أو» إلا بلفظ «إلّا» وحدها دون واو ، وكأن «إلّا» في عبارته على ما فهمه أبو حيان (٢) ليست «إلّا» الاستئنائية ، بل أصلها «إن» شرطية دخلت على «لا» النافية فأدغمت فيها ، فإنه قال : «أو تكون «أو» بمعنى «إلّا إن» ، وهي التي عبّر عنها ابن عطيّة بتلك العبارة من تقديرها بشرط ـ محذوف فعله ـ وجزاء». انتهى ، وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنه لم يقل بذلك أحد ، أعني كون «أو» بمعنى الشرط.
والثاني : أنه بعد أن حكم عليها بأنها بمعنى «إلّا إن» جعلها بمعنى شرط حذف فعله.
و «أن تردّ» في محلّ نصب على المفعول به ، أي : أو يخافوا ردّ أيمانهم. و (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) : إمّا ظرف ل «تردّ» ، أو متعلّق بمحذوف ؛ على أنها صفة ل «أيمان» ، وجمع الضمير في قوله «يأتوا» وما بعده ، وإن كان عائدا في المعنى على مثنى ، وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائد على صنفي الشاهدين ، وقيل : بل عائد على الشهود من الناس كلّهم ، معناه : ذلك أولى وأجدر أن يحذر الناس الخيانة ، فيتحرّوا في شهادتهم ؛ خوف الشناعة عليهم والفضيحة في ردّ اليمين على المدّعي ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) لم يذكر متعلّق التقوى : إمّا للعلم به ، أي : واتقوا الله في شهادتكم وفي الموصين عليهم بأن لا تختلسوا لهم شيئا ؛ لأن القصّة كانت بهذا السّبب ، وإمّا قصدا لإيقاع التقوى ، فيتناول كلّ ما يتّقى منه ، وكذا مفعول «اسمعوا» إن شئت حذفته اقتصارا أو اختصارا ، أي : اسمعوا أوامره من نواهيه من الأحكام المتقدّمة ، وما أفصح ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين ، فتبارك الله أصدق القائلين.
قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(١٠٩)
اعلم : أنّ عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ، أنّه إذا ذكر أنواعا من الشّرائع والتّكاليف والأحكام ، أتبعها إمّا بالإلهيّات ، وإمّا بشرح أحوال الأنبياء ، وإمّا بشرح أحوال
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٦.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥١.