أمّا الآية الأولى : فلأنّ الكلام فيها جاء على التّرتيب الوجودي ، فإنّ وصيّة من قبلنا قبل وصيّتنا ، فلمّا قصد هذا المعنى ، استحال ـ والحالة هذه ـ أن يقدر عليه متّصلا.
وأما الآية الثّانية : فلأنّه قصد فيها تقدّم ذكر الرّسول ؛ تشريفا له ، وتشنيعا على من تجاسر على مثل ذلك الفعل الفظيع ، فاستحال ـ والحالة هذه ـ أن يجاء به متّصلا ، و (مِنْ قَبْلِكُمْ) : يجوز أن يتعلّق ب «أوتوا» ، ويجوز أن يتعلّق ب «وصّينا» ؛ والأول أظهر.
قوله : (أَنِ اتَّقُوا) يجوز في «أن» وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريّة على حذف حرف الخفض ، تقديره : بأن اتّقوا ، فلما حذف الحرف جرى فيها الخلاف المشهور.
والثاني : أن تكون المفسّرة ؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، لا حروفه وهو الوصيّة ، والظاهر أن قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) جملة مستأنفة ؛ للإخبار بأن هذه الحال ليست داخلة في معمول الوصيّة.
وقال الزّمخشري (١) : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ) عطف على «اتّقوا» لأنّ المعنى : أمرناهم ، وأمرناكم بالتّقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا» وفي كلامه نظر ، لأنّ تقديره القول ، ينفي كون الجملة الشرطية مندرجة في حيّز الوصيّة بالنّسبة إلى الصّناعة النّحوية ، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط ، بل قصده هو وتفسير الإعراب ؛ بدليل قوله : عطف على «اتّقوا» ، و «اتّقوا» داخل في حيّز الوصيّة ، سواء أجعلت «أن» مصدريّة أم مفسّرة.
فصل
ومعنى [قوله :](٢)(أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ؛ كقولك : أمرتك الخير ، قال الكسائيّ : يقال : أوصيتك أن افعل (٣) كذا ، وأن تفعل (٤) كذا ، ويقال : ألم آمرك أن ائت (٥) زيدا ، وأن تأتي زيدا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : [و](٦)(أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] ، وقوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [النمل : ٩١] وتقدّم الكلام على (وَإِنْ تَكْفُرُوا).
قوله : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) في تعلّقه وجهان :
الأول : أنه ـ تعالى ـ خالقهم ومالكهم ، والمنعم عليهم بأصناف (٧) النّعم كلّها ، فحقّ على كل عاقل أن ينقاد لأوامره ونواهيه ، ويرجو ثوابه ، ويخاف عقابه.
والثاني : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من أصناف المخلوقات من
__________________
(١) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٣.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : تفصل.
(٤) في أ : تفصل.
(٥) في أ : أثبت.
(٦) سقط في ب.
(٧) في ب : بأنواع.