عطيّة (١) ـ رحمهالله ـ : «والوجه عود ضمير المؤنّث على ما تقتضيه الآية ضرورة ، أي : صورا ، أو أشكالا ، أو أجساما ، وعود الضمير المذكّر على المخلوق المدلول عليه ب «تخلق» ، ثم قال : «ولك أن تعيده على ما تدلّ عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأنّ المعنى : وإذ تخلق من الطّين مثل هيئته ، ولك أن تعيده على الكاف نفسها ، فتكون اسما في غير الشّعر». انتهى ، وهذا القول هو عين ما قبله ، فإنّ الكاف أيضا بمعنى مثل ، وكونها اسما في غير الشعر ، لم يقل به غير الأخفش.
واستشكل الناس قول مكيّ المتقدّم ؛ كما قدّمت حكايته عن ابن عطية رضي الله عنه. ويمكن أن يجاب عنه بأنّ قوله «عائد على الطّائر» لا يريد به الطائر الذي أضيفت إليه الهيئة ، بل الطائر المصوّر ، والتقدير : وإذ تخلق من الطّين طائرا صورة الطائر الحقيقيّ ، فتنفخ فيه ، فيكون طائرا حقيقيّا ، وأنّ قوله «عائد على الهيئة» لا يريد الهيئة المجرورة بالكاف ، بل الموصوفة بالكاف ، والتقدير : وإذ تخلق من الطّين هيئة مثل هيئة الطّائر ، فتنفخ فيها ، أي : في الموصوفة بالكاف الّتي نسب خلقها إلى عيسى ـ عليهالسلام ـ وأمّا كونه كيف يعود ضمير مذكّر على هيئة ، وضمير مؤنث على الطائر [لأنّ قوله : «ويجوز عكس هذا» يؤدي إلى ذلك؟ فجوابه أنه جاز بالتأويل ؛ لأنه تؤوّل الهيئة بالشكل ، ويؤوّل الطائر] بالهيئة ؛ فاستقام ، وهو موضع تأمّل ، وقال هنا «بإذني» أربع مرات عقيب أربع جمل ، وفي آل عمران (بِإِذْنِ اللهِ) مرتين ؛ لأنّ هناك موضع إخبار ، فناسب الإيجاز ، وهنا مقام تذكير بالنعمة والامتنان ، فناسب الإسهاب ؛ وقوله «بإذني» حال : إمّا من الفاعل ، أو من المفعول.
قوله : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) قال الخليليّ : من ولد أعمى ، ومن ولد بصيرا ثمّ أعمي.
قوله تعالى : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) : من قبورهم أحياء «بإذني» ، أي : بفعلي ذلك عند دعائك ، أي : عند قولك للميّت : اخرج بإذن الله ، وذلك الإذن في هذه الأفاعيل ، إنّما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ كقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] أي : إلّا بخلق الله الموت فيها.
قوله تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يعني : الواضحة والمعجزات الظّاهرة ، وقيل : المراد بالبيّنات الظّاهرة هذه البيّنات التي تقدّم ذكرها ، فيكون الألف واللّام للمعهود.
روي أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمّا أظهر هذه المعجزات العجيبة ، قصد اليهود قتله ، فخلّصه الله تعالى منهم ، حيث رفعه إلى السّماء.
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٨.