فصل في معنى الآية
معنى الآية الكريمة (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي : بعد إنزال المائدة ، (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : جنس عذاب لا أعذّبه أحدا من العالمين ـ يعني : على زمانه ـ فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة.
قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : مسخوا خنازير ، وقيل : قردة ، وقيل : جنسا من العذاب ، لا يعذّب به غيرهم (١).
قال الزّجّاج (٢) : ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجّلا في الدّنيا ، ويجوز أن يكون مؤخّرا في الآخرة.
قال عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ : «أنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون» (٣).
واختلف العلماء ـ رضي الله تعالى عنهم ـ هل نزلت أم لا؟.
فقال مجاهد ، والحسن : لم تنزل ، فإنّ الله تعالى لمّا أوعد على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا وقالوا : لا نريدها ؛ فلم تنزل. وقوله : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ـ يعني : إن سألتم ، والصّحيح الذي عليه الأكثرون : أنّها نزلت لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ولا خلف في خبره ، ولتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّها نزلت.
وقيل لهم : إنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبؤوا ؛ فما مضى يومها حتّى خانوا وخبّئوا ، فمسخوا قردة وخنازير.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إنّ عيسى ـ عليهالسلام ـ قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ، ثم سلوا الله ما شئتم يعطيكم ، فصاموا ، فلمّا فرغوا قالوا : يا عيسى : إنّا لو عملنا لأحد قضينا عمله لأطعمنا ، وسألوا الله المائدة ، فأقبلت الملائكة ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أخوان ، حتّى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم.
قال كعب الأحبار : نزلت منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض ، عليها كلّ الطّعام إلّا اللّحم (٤).
__________________
(١) أخرجه الطبري (٥ / ١٣٦) عن ابن عباس.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ١١٠.
(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٣٦) عن ابن عمرو وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٦١٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير كما في «الدر» (٢ / ٦١٣).