«بحقّ» هو العامل ؛ إذ «ليس» لا يجوز أن تعمل في شيء ، وإن قلنا : إنّ «كان» أختها قد تعمل لأن «ليس» لا حدث لها بالإجماع.
والثالث : أنه متعلّق بنفس «حقّ» ؛ لأنّ الباء زائدة ، و «حقّ» بمعنى «مستحقّ» ، أي : ما ليس مستحقّا لي.
فصل
اعلم : أنّه ـ تبارك وتعالى ـ لما سأل عيسى ـ عليهالسلام ـ أنّك هل قلت للنّاس ذلك؟ لم يقل عيسى بأنّي قلت ، أو : ما قلت ، بل قال : ما يكون لي أن أقول هذا الكلام ، وبدأ بالتّسبيح قبل الجواب لأمرين :
أحدهما : تنزيها له على أن يضيف إليه.
والثاني : خضوعا لعزّته ، وخوفا من سطوته.
ثمّ قال : «ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ» أي : أن أدّعي لنفسي بما ليس من حقّها يعني : أنّي مربوب ولست بربّ ، وعابد ، ولست بمعبود ، ولمّا بيّن أنّه ليس له أن يقول هذا الكلام ، شرع في بيان أنّه هل وقع منه هذا القول أم لا؟ ولم يقل بأنّي ما قلته ، بل فوّضه إلى علمه تعالى المحيط بالكلّ ، فقال : «إن كنت قلته فقد علمته بعلمك» ، وهذا مبالغة في الأدب ، وفي إظهار الذّلّة والمسكنة في حضرة الخلّاق ، وتفويض الأمر بالكلّيّة إلى الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ.
قوله : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) : «كنت» وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى ، والتقدير : إن تصحّ دعواي لما ذكر ، وقدّره الفارسي بقوله : «إن أكن الآن قلته فيما مضى» لأنّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل. وقوله : (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) أي : فقد تبيّن وظهر علمك به كقوله : (فَصَدَقَتْ) [يوسف : ٢٦] و (فَكَذَبَتْ) [يوسف : ٢٧] و (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠].
قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) هذه لا يجوز أن تكون عرفانية ، لأنّ العرفان كما تقدم يستدعي سبق جهل ، أو يقتصر به على معرفة الذات دون أحوالها حسب ما قاله الناس ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي : تعلم ما في نفسي كائنا موجودا على حقيقته لا يخفى عليك منه شيء ، وأمّا : (وَلا أَعْلَمُ) فهي وإن كان يجوز أن تكون عرفانية ، إلا أنها لمّا صارت مقابلة لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها ، والمراد بالنفس هنا ما قاله الزجاج (١) أنها تطلق ويراد بها حقيقة الشيء ، والمعنى في قوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) إلى آخره واضح.
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٤٥.