فصل
إنما قدّم الأمر بالقيام بالقسط على [الأمر](١) بالشّهادة لوجوه :
أحدها : أن أكثر النّاس عادتهم أنّهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم ، تركوه (٢) حتى إنّ قبح القبيح إذا صدر عنهم ، كان في محلّ المسامحة (٣) وأحسن الحسن ، إذا صدر عن غيرهم ، كان في محلّ المنازعة ، فالله ـ تعالى ـ نبّه في هذه الآية على سوء الطّريقة ، بأن أمره بالقيام [بالقسط](٤) أوّلا ، ثم أمره بالشّهادة على غيره ثانيا ؛ تنبيها على أن الطّريقة الحسنة هي (٥) أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه [فوق](٦) مضايقته مع الغير.
وثانيها : أنّ القيام بالقسط : هو دفع ضرر العقاب عن النّفس ، وإقامة الشّهادة ، سعي في دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الّذي عليه الحقّ ، ودفع الضرر عن النّفس مقدّم على دفع الضّرر عن (٧) الغير.
وثالثها : أن القيام بالقسط فعل ، والشّهادة قول [والفعل أقوى من القول](٨).
فإن قيل : فقد قدّم (٩) الشّهادة على القيام بالقسط في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)] [آل عمران : ١٨].
فالجواب : أنّ شهادة الله عبارة عن كونه مراعيا للعدل ، ومباينا للجور ، ومعلوم : أنّه ما لم يكن الإنسان كذلك ، لم يقبل شهادته على الغير ؛ فلهذا كان الواجب في قوله : (شَهِدَ اللهُ)](١٠) أن يقدّم (١١) تلك الشّهادة على القيام بالقسط ، والواجب هنا : أن تكون الشّهادة متأخّرة عن القيام بالقسط.
قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) إذا عطف ب «أو» كان الحكم في عود الضّمير ، والإخبار ، وغيرهما لأحد الشّيئين أو الأشياء ، ولا يجوز المطابقة ، تقول : «زيد أو عمرو أكرمته» ولو قلت : أكرمتهما ، لم يجز ، وعلى هذا يقال : كيف ثنّى الضّمير في الآية الكريمة ، والعطف ب «أو»؟ لا جرم أن النّحويّين اختلفوا في الجواب عن ذلك على خمسة أوجه :
أحدها : أنّ الضّمير في «بهما» ليس عائدا على الغنيّ والفقير المذكورين أولا ، بل
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : تركن.
(٣) في ب : المساجد.
(٤) سقط في أ.
(٥) في أ : على.
(٦) سقط في أ.
(٧) في ب : على.
(٨) سقط في أ.
(٩) في ب : قد تقدم.
(١٠) سقط في ب.
(١١) ي أ : يقوم.