سورة فاتحة الكتاب
[١] فإن قيل : الرّحمن أبلغ في الوصف بالرّحمة من الرّحيم ، بالنقل عن الزّجّاج وغيره ، فكيف قدمه؟ وعادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، كقولهم : فلان عالم نحرير ؛ لأنّ ذكر الأعلى أوّلا ، ثمّ الأدنى لا يتجدّد فيه ، بذكر الأدنى ، فائدة ؛ بخلاف عكسه؟
قلنا : قال الجوهري وغيره : إنّهما بمعنى واحد ، كنديم وندمان ؛ فعلى هذا لا يرد السؤال. وعلى القول الأوّل : إنّما قدّمه ؛ لأن لفظ الله اسم خاص بالباري تعالى. لا يسمّى به غيره. لا مفردا ولا مضافا ؛ فقدّمه. والرّحيم يوصف به غيره مفردا ومضافا فأخّره.
والرحمن يوصف به غيره مضافا ولا يوصف به مفردا إلّا الله تعالى ؛ فوسّطه.
[٢] فإن قيل : كيف قدّم العبادة على الاستعانة ، والاستعانة مقدّمة ؛ لأنّ العبد يستعين بالله على العبادة ؛ فيعينه الله تعالى عليها؟
قلنا : الواو لا تدلّ على الترتيب ، أو المراد بهذه العبادة التوحيد ، وهو مقدّم على الاستعانة على أداء سائر العبادات ؛ فإنّ من لم يكن موحّدا لا يطلب الإعانة على أداء العبادات.
[٣] فإن قيل : المراد بالصراط المستقيم : الإسلام ، أو القرآن ، أو طريق الجنّة ، كما قيل بالنّقل ؛ والمؤمنون مهتدون إلى ذلك ؛ فما معنى طلب الهداية لهم بقولهم : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ؛ إذا فيه تحصيل الحاصل؟
قلنا : معناه ثبّتنا عليه وأدمنا على سلوكه ؛ خوفا من سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما تقول العرب للواقف : قف حتّى آتيك ، معناه : دم على وقوفك وأثبت
__________________
[١] الزّجّاج : هو إبراهيم بن السرّي بن سهل ، أبو إسحاق الزّجاج. نحوي ولغوي ، ولد ببغداد سنة ٢٤١ ه وتوفي بها سنة ٣١١ ه. أخذ عن المبرّد. وكانت له مناقشات مع ثعلب. من مؤلفاته : معاني القرآن ، المثلث ، الاشتقاق ، خلق الإنسان ، الأمالي ، شرح أبيات سيبويه ، القوافي ، ما ينصرف وما لا ينصرف ، الخ.
ـ الجوهري : هو إسماعيل بن حماد الجوهري ، أبو نصر ، أحد أئمة اللّغة. توفي سنة ٣٩٣ ه. من مؤلفاته : الصحاح (وهو أشهرها) ، كتاب في العروض ، وكتاب في النحو. يقال إنه أوّل من حاول الطيران. أقام ببغداد ، وخالط الأعراب في البادية ، وعاش آخر حياته في نيسابور.