[٣٥٦] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَ) [الأنفال : ٧ ، ٨]؟
قلنا : إنما ذكر أولا لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة التي كانت فيها الغنيمة ، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين. فذكره أولا للتمييز بين الإرادتين ، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.
[٣٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار ورماهم النبي عليه الصلاة والسلام بكف من حصا الوادي في وجوههم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا وقع في عينيه شيء من ذلك ، فشغلوا بعيونهم وانهزموا ، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟
قلنا : لما كان السبب الأقوى في قتلهم إنما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم ، وذلك كله فعل الله تعالى ، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه ، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني ، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر ، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ؛ لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر فعل الله تعالى ، ونظير هذا قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه بتسليط من هو أعلى رتبة منه : هذا ليس قولك ولا فعلك.
وقيل : معنى قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم.
ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة مباحث لا يحتملها هذا المختصر ، وهي مستقصاة في كتب التصوف.
[٣٥٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] ثنّى في الأمر ثم أفرد في النهي؟
قلنا : كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع ، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يغشيني ، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان ، وعليه جاء قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ، أي يرضوهما ، فكذا هنا ، معناه : ولا تولوا عنهما.
__________________
[٣٥٨] ـ الحديث أخرجه أحمد : ٤ / ٢٥٦ ، بنحو اللفظ الذي أورده الرّازي هنا.