[٣٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر وهو فيهم؟
قلنا : معناه وأنت مقيم فيهم بمكة ، وكان كذلك ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما دام بمكة لم يعذبوا ، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذبوا.
وقيل معناه : وما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال وأنت فيهم.
وقيل معناه : وما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة وأنت فيهم.
[٣٦٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى أولا : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] الآية ، ثم قال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤] الآية ، وهو يوهم التناقض؟
قلنا : معناه وما لهم أن لا يعذبهم الله بعد خروجك من بينهم وخروج المؤمنين والمستغفرين.
وقيل : المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وبالثاني عذاب غير الاستئصال.
وقيل : المراد بالأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الآخرة.
[٣٦٤] فإن قيل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] والمكاء الصفير ، والتصدية التّصفيق ، وهما ليسا بصلاة؟
قلنا : معناه أنهم أقاموا المكاء والتّصدية مقام الصلاة ، كما يقول القائل : زرت فلانا ، فجعل الجفاء صلتي ، أي أقام الجفاء مقام صلتي ، ومنه قول الفرزدق :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه |
|
أداهم سودا أو محدرجة سمرا |
أراد بالأداهم القيود ، وبالمحدرجة السياط ، ووضعهما موضع العطاء.
[٣٦٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا) [الأنفال : ٣٨] وهم لم ينتهوا عن الكفر ، فكيف قال : (وَإِنْ يَعُودُوا) ؛ والعود إلى الشيء إنما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟
__________________
[٣٦٤] المكاء : يقال : مكا الطير يمكو مكاء ، أي صفر. فالمكاء الصفير.
ـ التصدية قال الرّاغب : التصدية كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه ، (أي باطلا ولا جدوى من ورائه). وفسرت التصدية بالتصفيق.
ـ يروى البيت وهو في ديوان الفرزدق ١ / ٢٢٧ :
فلمّا خشيت أن يكون عطاؤه |
|
أداهم سودا أو محدرجة سمرا |
وزياد هو ابن أبيه وقد كان توعد الفرزدق ، ثم تظاهر بالرضا عنه ، ولوّح له بأن يصله إذا هو أتاه ؛ فلم يطمئن له الشاعر.