ولم يقل لغريبان ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] وليس قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ٢٦] وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] من هذا القبيل ؛ لأن الإضمار ثم عن أحدهما لوجود لفظة أو ، وهي لإثبات أحد المذكورين ، فمن جعله نظير هذا فقد سها ؛ إلا أن يثبت أن أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو.
وفي هاتين الآيتين لطيفة وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة ، وإن كانت أبعد ، ومؤنثة أيضا ؛ لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله تعالى من اللهو ؛ لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو ، أو لأنها أكثر نفعا من اللهو ، أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا ؛ لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية ، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير.
[٣٨٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة : ٣٦] وهي عند الناس أيضا كذلك في كل ملة سواء كانت الشهور قمرية أو شمسية؟
قلنا : فائدته أن يعلم أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس وابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم ؛ وإنما هو أمر أنزله الله في كتبه على ألسنة رسله.
[٣٨٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] خص الأربعة الحرم بذلك وظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟
قلنا : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، الضّمير في قوله تعالى : (فِيهِنَ) راجع إلى قوله : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) لا الأربعة الحرم فقط ، فاندفع السؤال.
الثاني : أن الضمير راجع إلى الأربعة الحرم فقط ، إما لأنها أقرب ، أو لما قاله الفراء : إن العرب تقول في العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون وأيام خلون وهن وهؤلاء ، فإذا جاوزت العشرة قالت خلت ومضت ، للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها ، وبين الكثير وهو ما زاد عليها ، ولهذا قال في الاثني عشر : منها ، وقال في الأربعة : فيهن. فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر إما لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية فيكون ظلم النفس فيها أقبح ، ونظيره قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] وإن كان ذلك منهيا عنه في غير الحج أيضا ، أو لأن المراد بالظلم النسيء ، وهو كان مخصوصا بها ، أو قتال الكفار فيها ابتداء ، أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا وكل ذلك مخصوص بها؟