الناس والحجارة معروفة ، فنكّرها. ثم ، نزلت هذه الآية بالمدينة ، فعرّفت ؛ إشارة بها إلى ما عرفوه أوّلا.
[١٣] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] ، ليسا فعلين متغايرين ، فينهوا عن الجمع بينهما ؛ بل أحدهما داخل في الآخر؟
قلنا : هما فعلان متغايران ، لأنّ المراد بتلبيسهم الحقّ بالباطل كتابتهم في التّوراة ما ليس منها ، وبكتمانهم الحقّ قولهم : لا نجد في التّوراة صفة محمّد صلىاللهعليهوسلم.
[١٤] فإن قيل : قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] ، ما فائدة الثاني والأوّل يدلّ عليه ويقتضيه؟
قلنا : قوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ، أي : ملاقوا ثواب ربّهم ، وما وعدهم على الصبر والصلاة ؛ وقوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، أي موقنون بالبعث ؛ فصار المعنى : أنهم موقنون بالبعث وبحصول الثّواب الموعود ؛ فلا تكرار فيه.
[١٥] فإن قيل : كيف قال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] ؛ وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم ؛ لأنّهم قيل لهم ؛ قولوا حطّة ، فقالوا حنطة؟
قلنا : معناه فبدّل الّذين ظلموا قولا ، قيل لهم. وقالوا قولا ، غير الّذي قيل لهم.
[١٦] فإن قيل : قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] العثو : الفساد ؛ فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا : معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر ، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي.
[١٧] فإن قيل : كيف قال : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟
__________________
[١٥] حطّة : قال الرّاغب في مفرداته : هي كلمة أمر بها بنو إسرائيل ، ومعناه : حطّ عنّا ذنوبنا. وقيل : معناه : قولوا صوابا.
[١٦] العثو : ويقال العيث والعثي أيضا ، من عثا عثوّا ، وعثي عثوا ، إذا أفسد أشدّ الإفساد. وهو قول ابن سيده. وميّز الرّاغب في مفرداته بين العيث والعثي بأنّ الأوّل (العيث) أكثر ما يقال للفساد الذي يدرك حسّا ، والعثي فيما يدرك حكما ، أي أنّ الأوّل يقال للفساد الحسّي ، والثّاني يقال للفساد المعنوي. غير أنّه لم يذكر مستنده في ذلك.
[١٧] المنّ : قال في القاموس هو كلّ طلّ ينزل من السماء على شجر أو حجر ، ويحلو وينعقد عسلا ، ويجفّ جفاف الصمغ.
وذكر الرّاغب في مفرداته نحو هذا المعنى باختصار. ثم ، حكى القول بأن المن والسلوى شيء واحد ، وكلاهما إشارة إلى ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، لكن سمّاه منّا بحيث أنّه امتنّ به عليهم ، وسمّاه سلوى من حيث إنّه كان لهم به التّسلي.
أقول : وبهذا المعنى يبطل السؤال من رأس. ويلغو الجواب الذي حاوله الرّازي هنا.