سورة الغاشية
[١١٩٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٢ ـ ٤] ؛ مع أنّ جميع أبدانهم أيضا تصلى النار؟
قلنا : الوجه يطلق ويراد به جميع البدن كما في قوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١١١] وقيل : إن المراد بالوجوه هنا الأعيان والرؤساء ، كما يقال : هؤلاء وجوه القوم ، ويا وجه العرب ، أي ويا وجيههم ، ويؤيد هذا القول ما روي عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما ، أنّه قال : إن المراد به الرّهبان وأصحاب الصوامع.
[١١٩١] فإن قيل : كيف ارتبط قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] بما قبله ، وأيّ مناسبة بين السماء والإبل والجبال والأرض ؛ حتى جمع بينها؟
قلنا : لما وصف الله تعالى الجنّة بما وصف ، عجب من ذلك الكفار ، فذكرهم عجائب صنعه. وقال قتادة : لما ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا : كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) [الغاشية : ١٧] نظر اعتبار ، كيف (خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] للنهوض بالأثقال وحملها إلى البلاد البعيدة ، وجعلت تبرك حتى تحمل وتركب عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت ، فليس في الدواب ما يحمل عليه وهو بارك ويطيق النهوض إلا هي ، وسخرت لكل من قادها حتى الصبي الصغير ، ولما جعلت سفائن البر أعطين الصبر على احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا وجعلت ترعى كل نبات في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم ، وإنما لم يذكر الفيل والزرافة والكركند وغيرها مما هو أعظم من الجمل ؛ لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك ولا كانوا يعرفونه ؛ ولأن الإبل كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها ؛ وإنما جمع بينها وبين ما بعدها لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم وكثرة ملابستهم ومخالتهم ، ومن فسر الإبل بالسحاب والماء قصد بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل
__________________
[١١٩١] ابن دريد : هو محمد بن الحسن بن دريد ، من أزد عمان ، من قحطان ، أبو بكر ، أحد أئمة اللغة والأدب. ولد في البصرة ، وقيل في عمان ، سنة ٢٢٣ ه وتوفي سنة ٣٢١ وقيل ٣٢٣. أخذ عن السجستاني والرّياشي. من مؤلفاته : الاشتقاق ، المقصور والممدود ، الجمهرة ، المجتنى ، الخ.