التّشبيه على الكامل كقولهم : ليس كالذّهب الفضّة ، وليس العبد كالحرّ ، فوزانه : وليس الأنثى كالذّكر.
قلنا : لما كان جعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، في التّشبيه ، في حالة الإثبات ، يقتضي المبالغة في المشابهة ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفّه ، كان جعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، في حالة النفي ، يقتضي نفي المبالغة في المشابهة ، لا نفي المشابهة ؛ وذلك هو المقصود ، هنا ؛ لأنّ المشابهة واقعة بين الذّكر والأنثى ، في أعمّ الأوصاف ، وأغلبها ؛ ولهذا يقاد أحدهما بالآخر ؛ وإنّما أرادت أمّ مريم نفي المشابهة بينهما في صحّة النذرية ، خادما للبيت المقدس ؛ لا غير. فلذلك عكس.
الثّاني : أن ذلك قوله تعالى ، والمعنى ليس الذّكر الّذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت ؛ لما علم الله من جعلها وابنها آية للعالمين. وهو تفسير للتّعظيم والتّفخيم المجمل في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦].
وهي لا تعرف مقدار شرفه ، واللّام في الذّكر والأنثى للعهد. هذا كلّه قول الزّمخشري ، وتمامه في الكشّاف.
وقال الفقيه أبو اللّيث رحمهالله تعالى : قال بعضهم : هذا قول الله تعالى لمحمّد ، عليه الصلاة والسلام. أي (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يا محمّد. وقال بعضهم : هو من كلام أمّ مريم.
[٩٩] فإن قيل : كيف نادت الملائكة زكريّا ، وهو قائم يصلّي في المحراب ، وأجابها وهو في الصلاة ، كما قال الله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي) [آل عمران : ٣٩] الآية؟
قلنا : المراد بقوله يصلّي : أي يدعو ، كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] أي بدعائك.
[١٠٠] فإن قيل : ما فائدة تخصيص يحيى ، عليهالسلام ، بقوله : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩] ، وكلّ واحد من المؤمنين مصدّق بجميع كلمات الله تعالى؟
قلنا : معناه مصدّقا بعيسى الذي كان وجوده بكلمة من الله تعالى ؛ وهو قوله : (كُنْ) من غير واسطة أب في الوجود. وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كلّ أحد ، في الوجود ، أو في الرتبة.
__________________
ـ أئمة الحنفية. كان زاهدا متصوفا. توفي سنة ٣٧٣ ه. من مؤلفاته : تفسير القرآن ، عمدة العقائد ، بستان العارفين (في التصوف) ، تنبيه الغافلين ، المقدمة ، عيون المسائل ، مختلف الرّواية ، الخ.