قال : ويكلّم الناس في المهد ، كما يكلّمهم كهلا. وقال الزّجّاج : هذا ، خرج مخرج البشارة لمريم أنّه ، عليه الصلاة والسلام ، سيبقى إلى زمن الكهولة. فهو بشارة لها بطول عمره. وقيل : المقصود منه أنّ الزّمان يؤثّر فيه ، كما يؤثّر في غيره ، وينقله من حال إلى حال ؛ ولو كان إلها لم يجز عليه التغيير.
[١٠٦] فإن قيل : كيف قال : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥] ؛ والله تعالى رفعه ولم يتوفه؟
قلنا : لمّا هدّده اليهود بالقتل ، بشّره الله بأنه إنّما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل ؛ والواو لا تفيد التّرتيب ؛ فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه.
الثّاني : أنّ فيه تقديما وتأخيرا ، أي أنّي رافعك ومتوفيك.
والثّالث : أنّ معناه : قابضك من الأرض تامّا ، وافيا في أعضائك وجسدك ، لم ينالوا منك شيئا ؛ من قولهم : توفّيت حقّي على فلان ، إذا استوفيته تامّا وافيا.
الرّابع : أنّ معناه : إنّي متوفّيك في نفسك بالنّوم ، من قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] ورافعك إليّ ، وأنت نائم ؛ حتّى لا تخاف ، بل تستيقظ وأنت في السماء.
[١٠٧] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] ، وآدم خلق من التراب ، وعيسى خلق من الهواء ؛ وآدم خلق من غير أب وأمّ ، وعيسى خلق من أمّ.
قلنا : المراد به التّشبيه في وجوده بغير واسطة أب. والتّشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه ، بل من بعضها.
[١٠٨] فإن قيل : كيف خصّ أهل الكتاب بأنّ منهم أمينا وخائنا ، بقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥] الآية ؛ والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك ، منهم الأمين والخائن.
قلنا : إنّما خصّهم باعتبار واقعة الحال ؛ فإنّ سبب نزول الآية أنّ عبد الله بن سلام أودع ألفا ومائتي أوقية من الذّهب ، فأدّى الأمانة فيها ؛ وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا ، فخانه ؛ ولأنّ خيانة أهل الكتاب المسلمين تكون عن استحلال ، بدليل آخر الآية ؛ بخلاف خيانة المسلم المسلم ، فلذلك خصّهم بالذّكر.
[١٠٩] فإن قيل : كيف قال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣] وأكثر الجنّ والإنس كفرة؟
قلنا : المراد بهذا : الاستسلام والانقياد لما قضاه الله عليهم ، وقدّره من الحياة والموت ، والمرض والصحة ، والشّقاء والسعادة ، ونحو ذلك.