واختارها بعضهم لموافقتها لما أجمع عليه في «يوسف» : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) [يوسف : ١٩] ، وفي مصاحف غيرهم بلامين. و «خير» يجوز أن يكون للتفضيل ، وحذف المفضّل عليه للعلم به ، أي : خير من الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكون لمجرّد الوصف بالخيرية كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] و (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «خير» والذي ينبغي ـ [أو يتعيّن](١) ـ أن تكون «اللام» للبيان (٢) ، أي : أعني للذين ، وكذا كلّ ما جاء من نحوه ، نحو : (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى : ٤].
فصل في معنى الخيرية
ذكروا في وجه هذه الخيريّة وجوها :
أحدها : أنّ خيرات الدنيا [خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك من وجوه :
الأوّل : أن خيرات الدنيا](٣) ليس إلّا قضاء الشّهوتين ، وهي في نهاية الخساسة ؛ لأن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها ، بل ربما [كان](٤) أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان ، فالجمل أكثر أكلا ، والدّيك والعصفور أكثر وقاعا ، والذّئب أقوى على الفساد والتّمزيق ، والعقرب أقوى على الإيذاء (٥) ، ومما يدلّ على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوقاع والأكل أشرف الناس وأعلاهم درجة ، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك ، بل مثل هذا الإنسان يكون [ممقوتا](٦) مستحقرا ، يوصف بأنه بهيمة أو كلب ، أو أخسّ ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال ، بل يخفونها ، ولذلك عادة العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون (٧) عن النّاس ، وأيضا فإن الناس إذا شتم بعضهم بعضا لا يذكرون فيه إلّا الألفاظ الدّالة على الوقاع ، وأيضا فإن هذه [اللّذات](٨) سريعة الانقضاء والاستحالة ، فثبت بهذه الوجود خساسة هذه الملذّات.
وأما السّعادات الرّوحانية ، فإنها سعادات عالية شريفة ، باقية مقدّسة ، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيّلوا في إنسان كثرة العلم والدّين وشدّة الانقباض عن اللّذات الجسمانية ، فإنهم بالطّبع يجيبونه ويخدمونه ، ويعدون [أنفسهم](٩) عبيدا لذلك الإنسان ، وأشقياء بالنسبة إليه ، وذلك يدلّ على خساسة اللّذات الجسمانية ، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.
الأمر الثاني : في [بيان](١٠) أنّ خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدّنيا ، وهو أن يقال :
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : للشأن.
(٣) سقط في أ.
(٤) سقط في أ.
(٥) في ب : الإيلام.
(٦) سقط في أ.
(٧) في ب : يخفون.
(٨) سقط في أ.
(٩) سقط في ب.
(١٠) سقط في أ.