ونظيره : قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] في قصة موسى عليه الصلاة والسلام.
الرابع : أنهم لا يقولون : أنت كذّاب ؛ لأنهم جرّبوك الدّهر الطويل وما وجدوا منك كذبا ألبتّة ، وسمّوك بالأمين ، وإنما جحدوا صحّة نبوّتك ؛ لأنهم اعتقدوا أنّ محمّدا عرض له نوع خبل ونقصان ، فلأجله تخيّل في نفسه كونه رسولا من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب ، بل هو أمين في كلّ الأمور إلّا في هذا الوجه الواحد.
الخامس : قال ابن الخطيب (١) : المراد أنّهم لا يخصّونك بالتكذيب ، بل ينكرون دلالة المعجزة الظّاهرة على الصدق مطلقا لقوله : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).
والمراد أنهم يقولون في كلّ معجزة : إنها سحر ، فالتقدير : أنهم لا يكذّبونك على التّعيين ، بل القوم يكذّبون جميع الأنبياء والرّسل.
قوله : (بِآياتِ اللهِ) يجوز في هذا الجارّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق ب «يجحدون» وهو الظّاهر ، وجوّز أبو البقاء (٢) أن يتعلق ب «الظّالمين» قال : كقوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء : ٥٩] وهذا الذي قاله ليس بجيّد لأن «الباء» هناك سببيّة ، أي : ظلموا بسببها ، و «الباء» هنا معناها التعدية ، وهنا شيء يتعلّق به تعلّقا واضحا ، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه ، وفي هذه الآية إقامة الظاهر مقام المضمر ، إذ الأصل : «ولكنهم يجحدون بآيات الله» ، ولكنّه نبّه على أن الظلم هو الحامل لهم على الجحود.
والجحود والجحد نفي ما في القلب ثباته ، أو إثبات ما في القلب نفيه.
وقيل : الجحد إنكار المعرفة ، فليس مرادفا للنفي من كلّ وجه.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(٣٤)
لما أزال الحزن عن قلب رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الآية الأولى بأن بيّن أن تكذيبهم يجري مجرى تكذيب الله ـ تعالى ـ ذكر في هذه الآية طريقا آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بيّن أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة ، وأن أولئك صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى آتاهم الله النّصر والفتح والظّفر ، فوجب أن يقتدي بهم في هذه الطريقة.
قوله : (مِنْ قَبْلِكَ) متعلّق ب «كذّبت».
ومنع أبو البقاء أن يكون صفة ل «رسل» ؛ لأنه زمان ، والزّمان لا توصف به
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٩.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٠.