الطّرفين على الآخر إلّا لداعية مرجّحة ، وحصول تلك الدّاعية ليس من العبد ، وإلّا لزم التّسلسل ، فثبت أن خالق تلك الدّاعية هو الله تعالى ، وثبت أن مجموع القدرة مع الدّاعية الخالصة يوجب الفعل ، فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان.
قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).
نهي له عن هذه الحالة وهو قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فإنّ من يكفر لسابق علم الله فيه ، وهذا النّهي لا يقتضي إقدامه على مثل مثل هذه الحالة كقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] لا يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أطاعهم وقبل دينهم ، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسّرك على تكذيبهم ، ولا تجزع من إعراضهم عنك ، فإنّك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل ، والمقصود تبعيده عن مثل هذه الحالة.
قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٣٦)
اعلم أنّه بيّن السّبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ، ولا يتركون الكفر فقال : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ، يعني : أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنّما يستجيب من يسمع كقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠].
قال علي بن عيسى (١) : الفرق بين «يستجيب» و «يجيب» أن «يستجيب» فيه قبول لما دعي إليه ، وليس كذلك «يجيب» ؛ لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل : أتوافق في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب : أخالف.
قوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها جملة من مبتدأ وخبر سيقت للإخبار بقدرته ، وأنّ من قدر على بعث الموتى يقدر على إحياء قلوب الكفرة بالإيمان ، فلا تتأسّف على من كفر.
والثاني : أن الموتى منصوب بفعل مضمر يفسّره الظّاهر بعده ، ورجح هذا الوجه على الرّفع بالابتداء لطعف جملة الاشتغال (٢) على جملة فعلية قبلها ، فهو نظير : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١] بعد قوله : (يُدْخِلُ) [الإنسان : ٣١].
والثالث : أنّه مرفوع على الموصول قبله ، والمراد ب «الموتى» الكفّار أي : إنما يستجيب المؤمنون السّامعون من أوّل وهلة ، والكافرون الذين يجيبهم الله ـ تعالى ـ بالإيمان ويوفقهم له ، فالكافرون يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ، وحينئذ يسمعون ، وأمّا قبل ذلك فلا يسمعون ألبتّة ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في محلّ نصب
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٢.
(٢) في أ : الابتداء.