قوله : (مِنْ شَيْءٍ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن «من» زائدة في المفعول به ، والتقدير : ما فرّطنا شيئا ، وتضمن «فرطنا» معنى تركنا وأغفلنا ، والمعنى : ما أغفلنا ، ولا تركنا شيئا.
والثاني : أن «من» تبعيضيّة ، أي : ما تركنا ولا أغفلنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلّف.
الثالث : أن (مِنْ شَيْءٍ) في محلّ نصب على المصدر ، و «من» زائدة فيه أيضا.
ولم يجز أبو البقاء (١) غيره ، فإنه قال : «من» زائدة ، و «شيء» هنا واقع موقع المصدر ، أي تفريطا.
وعلى هذا التّأويل لا يبقى في الآية حجّة لمن ظنّ أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا ، ونظير ذلك : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : ١٢٠].
ولا يجوز أن يكون مفعولا به ؛ لأن «فرّطنا» لا يتعدّى بنفسه ، بل بحرف الجرّ ، وقد عدّيت إلى «الكتاب» ب «في» ، فلا يتعدّى بحرف آخر ، ولا يصحّ أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ؛ لأن المعنى على خلافه ، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى.
قوله : «يحتوي على ذكر كل شيء صريحا» لم يقل به أحد ؛ لأنه مكابرة في الضروريات(٢).
وقرأ الأعرج وعلقمة : «فرطنا» مخفّفا ، فقيل : هما بمعنى وعن النقاش : فرطنا : أخّرنا ، كما قالوا : «فرط الله عنك المرض» أي : أزاله.
قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) : قال ابن عبّاس ، والضحاك : حشرها موتها (٣).
وقال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة الإنس والجن والبهائم والدّوابّ والطير وكلّ شيء ، فيأخذ للجمّاء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا (٤) ، فحينئذ يتمنّى الكافر ويقول : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ، ويتأكّد هذا بقوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير : ٥].
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣٩)
قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) مبتدأ ، وما بعده الخبر.
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤١.
(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٢٦.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٨٧) عن ابن عباس والضحاك وذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٧١).
(٤) أخرجه الطبري (٥ / ١٨٧) والحاكم (٢ / ٣١٦) من حديث أبي هريرة وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٠ ـ ٢١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.