فصل في المراد من الآية
معنى الآية فيكشف الضّرّ الذي من أجله دعوتم إن شاء ، وهذه الآية تدلّ على أنه ـ تعالى ـ قد يجيب الدّعاء إن شاء ، وقد لا يجيبه.
فإن قيل : قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] يفيد الجزم بالإجابة ، وهاهنا علّق الإجابة على المشيئة ، فكيف يجمع بين الآيتين؟
فالجواب أن يقال : تارة يجزم سبحانه بالإجابة ، وتارة لا يجيب إمّا بحسب المشيئة كما يقول أهل السّنّة ، أو بحسب رعاية المصلحة كما يقول المعتزلة ، ولمّا كان كلا الأمرين حاصلا لا جرم وردت الآيتين على هذين الوجهين (١).
فصل في أن أصل الدين هو الحجة
وهذه الآية من أقوى الدّلائل على أن أصل الدين هو الحجّة والدليل ، لا يخصّ التقليد ؛ لأنه ـ تعالى ـ كان يقول لعبدة الأوثان إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله لا إلى الأصنام والأوثان ، فلم تقدمون على الأصنام التي لا تنتفعون بعبادتها ألبتّة ، وهذا الكلام إنما يفيد لو كان ذكر الدّليل والحجّة مقبولا ، أمّا لو كان مردودا وكان الواجب التقليد كان هذا الكلام ساقطا.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤٣)
في الكلام حذف تقديره : «أرسلنا رسلا إلى أمم فكذبوا فأخذناهم» وهذا الحذف ظاهر جدا.
و «من قبلك» متعلّق ب «أرسلنا» ، وفي جعله صفة ل «أمم» كلام تقدّم مرارا ، وتقدّم تفسير (الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [البقرة : ١٧٧] ولم يلفظ لهما بمذكر على «أفعل».
قوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا).
«إذ» منصوب ب «تضرّعوا» فصل به بين حرف التحضيض وما دخل عليه ، وهو جائز حتى في المفعول به ، تقول : «لو لا زيدا ضربت» ، وتقدّم أن حرف التّحضيض مع الماضي يكون معناه التّوبيخ ، والتّضرّع : «تفعّل» من الضّراعة ؛ وهي الذّلّة والهيبة المسببة عن الانقياد إلى الطاعة ، يقال : «ضرع يضرع ضراعة فهو ضارع وضرع».
قال الشاعر : [الطويل]
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ١٨٤.