فصل في شبهة للكفار
ذكروا في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قولين :
الأول : أن الكفّار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء ، وقالوا : يا محمد إنهم [إنما](١) اجتمعوا عندك ، وقبلوا دينك ؛ لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك ، وإلّا فهم فارغون عن دينك ، فقال الله تعالى : إن كان الأمر على ما يقول هؤلاء ، فما يلزمك إلّا اعتبار الظّاهر ، وإن كان باطنهم غير مرض عند الله ، فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدّى إليك ، كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم ، كقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].
الثاني : المعنى : ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملّهم وتطردهم ، فتكون من الظالمين لهم ؛ لأنهم لمّا استوجبوا مزيد التقريب كان طردهم ظلما لهم (٢).
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣)
«الكاف» في محلّ نصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : ومثل ذلك الفتون المتقدم الذي فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنّا بعض هذه الأمّة ببعض ، فالإشارة بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله : «فتنّا» ، ولذلك قال الزمخشري (٣) : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض فجعل الإشارة لمصدر فتنّا. وانظر كيف لم يتلّفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله ـ تعالى ـ في كلامه ، وإن كان البارىء ـ تعالى ـ قد أسندها ، بل قال : فتن بعض الناس فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة.
وجعل ابن (٤) عطية الإشارة إلى طلب الطّرد ، فإنه قال بعد كلام يتعلّق بالتفسير : «والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضّعفة».
قال أبو حيّان (٥) : ولا ينتظم هذا التّشبيه ؛ إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرد فتنّا بعضهم ببعض والمتبادر إلى الذّهن من قولك : «ضربت مثل ذلك» المماثلة في الضرب ، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضّرب ، وقد تقدّم مرارا أن سيبويه (٦) يجعل مثل ذلك حالا من ضمير المصدر المقدر.
قوله : «ليقولوا» في هذه «اللام» وجهان :
أظهرهما : ـ وعليه أكثر المعربين والمفسّرين ـ أنها لام «كي» ، والتقدير : ومثل
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٥ ـ ١٩٦.
(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨.
(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩٦.
(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٤٢.
(٦) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.