كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مسارعين إلى قبوله ، فقالوا : ولو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين ، وأن نعترف لهم بالتّبعيّة ، فكأن ذلك يشقّ عليهم ، ونظيره : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١].
وأمّا فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفّار في الرّاحات والمسّرات والطّيبات والخصب والسّعة ، فكانوا يقولون : كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفّار مع أنّا بقينا في [هذه](١) الشدّة والضّيق ، فقال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ) فأحد الفريقين يرى الآخر مقدما [عليه](٢) في المناصب الدينية (٣) ، ويقولون : أهذا الذي فضّله الله علينا؟
وأمّا المحققون فهم الذين يعلمون أن كلّ ما فعله الله ـ تعالى ـ فهو حقّ وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه ، إمّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السّنّة (٤) ، وإمّا بحسب المصلحة كما هو قول المعتزلة (٥) فكانوا صابرين في وقت البلاء ، شاكرين في وقت الآلاء والنّعماء وهم الذين قال الله في حقّهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
فصل
روى أبو سعيد الخدريّ قال : جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين ، وإن بعضهم ليستتر من بعض من العري ، وقارىء يقرأ علينا ، إذ جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقام علينا فلما قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم سكت القارىء ، فسلّم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : ما كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول الله : كان قارىء يقرأ وكنّا نستمع إلى كتاب الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» ، قال : ثمّ جلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا فتحلّقوا ، وبرزت وجوههم له قال : فما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عرف منهم أحدا غيري.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنّور التّام يوم القيامة تدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم ، وذلك مقدار خمسمائة سنة» (٦).
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) سقط في أ.
(٣) في أ : الدنيوية.
(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٦.
(٥) ينظر : المصدر السابق.
(٦) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٩٦٠٦٣. وأبو داود في السنن ٢ / ٣٤٧ كتاب العلم : باب القصص الحديث (٣٦٦٦) قوله : «فقام علينا» أي وقف على رؤوسنا أي كنا غافلين عن مجيئه فنظرنا فإذا هو قائم فوق رؤوسنا يستمع إلى كتاب الله. وقوله : «ثم قال بيده» أي أشار بيده و «صعاليك المهاجرين» أي جماعة الفقراء من المهاجرين جمع صعلوك.