فصل في بيان الدلالة من الآية
احتجّ أهل السّنّة (١) بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال من وجهين :
الأول : أن قوله : (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) تصريح بأنّ إلقاء تلك الفتنة من الله تعالى ، والمراد من تلك الفتنة ليس إلّا اعتراضهم على الله في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدّين ، والاعتراض على الله كفر ، وذلك يدلّ على أنّه ـ تعالى ـ هو الخالق للكفر.
والثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عنهم أنهم قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي : منّ عليهم بالإيمان بالله ، ومتابعة الرسول ، وذلك يدلّ على أن هذا المعنى إنما حصل من الله تعالى ؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما منّ عليه بهذا الإيمان ، بل العبد هو الذي منّ على نفسه بهذا الإيمان.
أجاب الجبائي (٢) عنه بأن الفتنة في التّكليف ما توجب التّشديد وإنما فعلنا ذلك ليقولوا : أهؤلاء أي : ليقول بعضهم لبعض استفهاما لا إنكارا [أهؤلاء](٣) منّ الله عليهم من بيننا بالإيمان أجاب الكعبي (٤) عنه بأن قال : «وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا ، فكان عاقبة أمرهم أن قالوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا» على مثاله قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].
والجواب عن الوجهين أنه عدول عن الظاهر من غير دليل ، والدليل العقليّ قائم على صحّة هذا الظاهر ؛ لأنه لمّا كانت مشاهدة هذه الأحوال توجب الأنفة ، والأنفة توجب العصيان والإصرار على الكفر ، وموجب الموجب موجب ، فكان الإلزام واردا (٥) ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٤)
«إذا» منصوب بجوابه ، أي : فقل سلام عليكم وقت مجيئهم أي : أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح.
وقال أبو البقاء (٦) : «والعامل في «إذا» معنى الجواب ، أي : إذا جاءوك سلّم عليهم» ولا حاجة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ؛ لأن كونه يبلّغهم السّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرّحمة ، وأنه من عمل سوءا بجهالة غفر له لا يقوم مقامه السّلام فقط ، وتقديره يفضي إلى ذلك.
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٦.
(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٧.
(٣) سقط في أ.
(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٧.
(٥) ينظر : المصدر السابق.
(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٤.