وثانيها : يجوز أن يقال : إنه ـ تعالى ـ ذكر الورقة والحبّة تنبيها للمكلّفين على أمر الحساب وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ؛ لأنه إذا كان لا يهمل من الأحوال التي ليس فيها ثواب وعقاب وتكليف ، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.
وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لمّا أثبت أحوال جميع الموجودات في ذلك على التفصيل التام ، امتنع أيضا تغيّرها ، وإلّا لزم الكذب ، فيصير [كتبه](١) جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تامّا [وسببا كاملا](٢) ، في أنه يمتنع تقدّم ما تأخّر ، وتأخّر ما تقدّم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (٣) والله أعلم.
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٦٠)
لمّا بيّن تعالى كمال علمه في الآية الأولى ـ بيّن كمال قدرته بهذه الآية ، وهو كونه قادرا على نقل الذّوات من الموت إلى الحياة ، ومن النّوم إلى اليقظة ، واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال ، وتدبيرها على أحسن الوجوه في حال النوم واليقظة.
قوله : «باللّيل» متعلّق بما قبله على أنه ظرف له ، و «الباء» تأتي بمعنى «في» ، وقد تقدّم منه جملة صالحة.
وقال أبو البقاء (٤) هنا : وجاز ذلك ؛ لأن «الباء» للإلصاق والملاصق للزمان والمكان حاصل فيهما ، يعني في هذه العلاقة المجوزة للتّجوّز ، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوب حرف مكان آخر ، بل نقول : هي هنا للإلصاق مجازا ، نحو ما قالوه في «مررت بزيد» ، وأسند التّوفّي هنا إلى ذاته المقدّسة ، لأنه لا ينفر منه هنا ، إذ المراد به الدّعة والرّاحة ، وأسند إلى غيره في قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] لأنه ينفر منه ، إذ المراد به الموت.
وهاهنا بحث ، وهو أن النائم لا شكّ أنّه حيّ ، ومتى كان حيّا لم تكن روحه مقبوضة ألبتّة ، فلا بدّ هاهنا من تأويل ، وهو أنه حال النوم تغور الأرواح الحسّاسة من الظاهر في الباطن ، فصارت الحواسّ الظاهرة معطّلة عن أعمالها ، فعند النوم صار ظاهر الجسد معطّلا عن كلّ الأعمال ، فحصل بين النّوم وبين الموت مشابهة من هذه الحيثيّة ، فلذلك صحّ إطلاق لفظ الموت والوفاة على النوم (٥).
قوله : «ما جرحتم» الظاهر أنها مصدريّة ، وإن كان كونها موصولة اسمية أكثر
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) سقط في أ.
(٣) تقدم.
(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.
(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ١١.