آخر الأمثلة التي ذكرها لا يردّ على الزمخشري (١) ؛ لأن الزمخشري وغيره من أهل اللّسان والأصوليين يقولون : إنّ العطف ظاهر في التشريك ، فإن كان في المعطوف عليه قيد ، فالظّاهر تقييد المعطوف بذلك القيد ؛ إلّا أن تجيء قرينة صارفة ، فيحال الأمر عليها.
فإذا قلت : ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا ، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضّرب مقيدا بيوم الجمعة ، فإن قلت : وعمرا يوم السبت لم يشاركه في قيده ، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول ؛ أي : لم يؤت مع المعطوف بقرينة تخرجه ، فالظاهر مشاركته للأول في قيده ، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري ، وأما الأمثلة التي أوردها فالمعطوف مقيّد بغير القيد الذي قيد به الأوّل ، وإنما كان ينبغي أن يمثّل بقوله : «ما عندنا رجل سوء ولكن امرأة وما عندنا رجل من تميم ولكن صبي» ، فالظاهر من هذا أن المعنى : ولكن امرأة سوء ، ولكن صبي من قريش.
وقول الزمخشري (٢) : «عطفا على محل : من شيء» ولم يقل : عطفا على لفظه لفائدة حسنة يعسر معرفتها ، وهو أن «لكن» حرف إيجاب ، فلو عطفت ما بعدها على المجرور ب «من» لفظا لزم زيادة «من» في الواجب ، وجمهور البصريين على عدم زيادتها فيه ، ويدلّ على اعتبار الإيجاب في «لكن» أنهم إذا عطفوا بعد خبر «ما» الحجازية أبطلوا النّصب ؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي ، و «بل» ك «لكن» فيما ذكرنا.
فصل في النزول
روي عن ابن عبّاس أنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال المسلمون : لئن كنّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن ، وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف بالبيت ، وهم يخوضون أبدا (٣).
وفي رواية : قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ، ولا ننهاهم ، فأنزل الله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) أي : من آثام الخائفين من شيء (وَلكِنْ ذِكْرى) أي : ذكّروهم وعظوهم بالقرآن ، والذّكر والذّكرى واحد ، يريد ذكروهم ذكرى لعلّهم يتقون الخوض إذا وعظتموهم ، فرخص في مجالستهم على الوعظ لعلّهم يمنعهم ذلك من الخوض.
وقيل : لعلّهم يستحيون.
قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٢٦) عن أبي مالك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧) عن أبي مالك وسعيد بن جبير وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.