الثالث : أنه نعت للهاء في «له» ، وهذا إنما يتمشى على رأي الكسائي حيث يجيز نعت المضمر بالغائب ، وهو ضعيف عند البصريين والكوفيين غير الكسائي.
فصل في بيان المقصود من ذكر أحوال البعث
اعلم أنه ـ تعالى ـ ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرّر فيه أصلين :
أحدهما : كونه قادرا على الممكنات.
والثاني : كونه عالما بكل المعلومات ؛ لأن بتقدير : ألّا يكون قادرا على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ، وردّ الأرواح إلى الأجساد ، وبتقدير ألّا يكون عالما بجميع الجزئيات لم يصحّ ذلك فيه ؛ لأنه ربما اشتبه المطيع بالعاصي والمؤمن بالكافر ، فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة ، أما إذا ثبت حصول هذين الصفتين كمل الغرض ، فقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) يدل على كمال القدرة ، وقوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يدلّ على كمال العلم ، فلزم بمجموعهما أن يكون قوله حقا وحكمة وصدقا ، وقضاياه مبرّأة عن الجور والعبث ، ثم قال تعالى : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) والحكيم : هو المصيب في أفعاله ، والخبير : هو العالم بحقائقها من غير اشتباه. والله أعلم.
قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٧٤)
اعلم أنه ـ تعالى ـ يحتجّ كثيرا على مشركي العرب بأحوال إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وذلك لأنه رجل يعترف بفضله جميع الطوائف والملل ، فالمشركون كانوا معترفين بفضله ، متشرّفين بأنهم من أولاده ، وسائر الملل تعظمه ، فلهذا السبب ذكر الله حاله في معرض الاحتجاج ، والسبب في حصول هذه المرتبة العظيمة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنّه سلّم قلبه للعرفان ، ولسانه للبرهان ، وبدنه للنيران ، وولده للقربان ، وماله للضّيفان.
أما تسليم قلبه للعرفان ، فهو قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١].
وأما تسليم لسانه للبرهان : فمناظرته مع نمرود ، حيث قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ومناظرته مع الكفار بالفعل حين كسّر أصنامهم ، وجعلها جذاذا ، وقوله بعد ذلك: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) [الأنبياء : ٦٦].
وأما تسليم بدنه للنيران : فحين ألقي فيها.
وأما تسليم ولده للقربان : فحين أمر بذبح ولد ه «فتلّه للجبين».
وأما تسليم ماله للضيفان : فمشهورة.
قوله : «وإذ قال» «إذ» منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر ، وهو معطوف على