فالجواب (١) : أنهم وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطّلاع على آثار حكمة الله ـ تعالى ـ في كلّ واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها ، وأنواعها ، وأشخاصها ، وأحوالها مما لا يحصل إلّا لأكابر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ، ولهذا كان عليه الصّلاة والسّلام يقول في دعائه : «اللهمّ أرنا الأشياء كما هي» (٢).
فصل في تفسير الملكوت
قال قتادة : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ) : الشّمس ، والقمر ، والنجوم ، وملكوت الأرض : الجبال ، والشّجر ، والبحار (٣).
قوله : «وليكون» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن «الواو» زائدة ، أي : نريه ليكون من المؤمنين بالله ، و «اللام» متعلقة بالفعل قبلها ، إلا أن زيادة «الواو» ضعيفة ولم يقل بها إلّا الأخفش (٤) ومن تابعه.
الثاني : أنها علّة لمحذوف ، أي : وليكون أريناه إياه ذلك ، والتقدير : وليكون من الموقنين برؤية ملكوت السّموات والأرض.
الثالث : أنها عطف على علّة محذوفة ، أي : ليستدل وليكون ، أو ليقيم الحجّة على قومه ، واليقين : عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشّبهة بسبب التّأمّل ، ولهذا المعنى لا يوصف علم الله بكونه يقينا ؛ لأنّ علمه غير مسبوق بالشبهة ، وغير مستفاد من الفكر والتأمل.
قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦)
قوله : «فلمّا جنّ» يجوز أن تكون هذه الجملة نسقا على قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطفا للدليل على مدلوله ، فيكون (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) معترضا كما تقدم ، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ).
قال ابن عطيّة (٥) : «الفاء» في قوله : «فلمّا» رابطة جملة ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجح أن المراد بالملكوت التّفضيل المذكور في هذه الآية ، والأوّل أحسن ، وإليه نحا الزمخشري (٦).
و «جنّ» : ستر وقد تقدم اشتقاق هذه المادة عند ذكر (الْجَنَّةَ) [البقرة : ٢٥] وهنا خصوصية لذكر الفعل المسند إلى الليل يقال : جنّ عليه الليل ، وأجن عليه بمعنى : أظلم فيستعمل قاصرا ، وجنّه وأجنّه ، فيستعمل متعديا فهذا مما اتفق فيه فعل وأفعل لزوما
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٣٧.
(٢) ذكره الرازي في تفسيره ١٣ / ٣٧.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٤٣) عن قتادة.
(٤) ينظر : معاني القرآن ١٢٥.
(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٢.
(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٠.