وهم كانوا منجّمين ، ومذهبهم أن الكواكب إذا كان في الرّبع الشرقي ، ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويّا عظيم التأثير ، أما إذا كان غربيّا وقريبا من الأفول ، فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوّة ، فنبّه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز ، وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرّبع الغربي يكون ضعيف القوة ، ناقص التأثير ، عاجزا عن التّدبير ، وذلك يدلّ على القدح في إلهيته ، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته والله أعلم.
فإن قيل : إن تلك اللّيلة كانت مسبوقة بنهار وليل ، فكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلا في الليل السّابق والنهار السابق ، وبهذا التقدير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة فائدة؟
فالجواب : أنا قد بيّنّا أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ إنما أورد هذا الدّليل على القوم الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد ، فلا يبعد أن يقال : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان جالسا مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي ، فزجرهم عن عبادة الكواكب ، فبينما هو في تقرير ذلك الكلام ، إذ رفع بصره إلى كوكب مضيء ، فلما أفل قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : لو كان هذا الكوكب إلها لما انتقل من الصّعود إلى الأفول ومن القوّة إلى الضعف ، ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل فأعاد عليهم ذلك ، وكذا القول في الشمس (١).
فصل في الدلالة في الآية
دلّت الآية على أحكام :
أحدها : دلّت على أنه ليس بجسم ، إذ لو كان جسما غائبا أبدا لكان آفلا أبدا.
وأيضا يمتنع أن يكون ـ تعالى ـ بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى ، وإلّا يحصل معنى الأفول.
وثانيها : دلّت الآية على أنه ـ تعالى ـ ليس محلّا للصّفات المحدثة ، كما يقول الكرامية ، وإلّا لكان متغيرا ، وحينئذ يحصل معنى الأفول ، وذلك محال.
ثالثها : دلّت الآية على أنّ الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل ، لا على التّقليد ، وإلّا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة.
ورابعها : دلّت الآية على أن معارف الأنبياء بربّهم استدلاليّة لا ضرورية ، وإلّا لما احتاج إبراهيم ـ عليهالسلام ـ إلى الاستدلال.
وخامسها : دلّت الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله ـ تعالى ـ إلّا بالنّظر
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٤١.