وعن الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لو كان مأمورا بأن يستدلّ بالدليل الذي استدلّ به الأنبياء المتقدّمون لم يكن ذلك متابعة ؛ لأن المسلمين لما استدلّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم متّبعون لليهود والنّصارى في هذا الباب ؛ لأن المستدلّ بالدليل يكون أصلا في ذلك الحكم ، ولا تعلّق له بمن قبله ألبتّة ، والاقتداء والاتّباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوّل سببا لوجوب الفعل عن الثاني.
وعن الثالث : أنه أمر الرّسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصّفات الحميدة ، والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقلّ مرتبة من الكلّ على ما يأتي في الفصل الذي بعده.
فصل في أفضلية نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم
احتجّ العلماء بهذه الآية على أن الرّسول صلىاللهعليهوسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ؛ لأن خصال الكمال وصفات الشّرف كانت مفرّقة فيهم ف «داود» و «سليمان» كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، و «أيّوب» كان من أصحاب الصّبر على البلاء ، و «يوسف» كان جامعا لهاتين الحالتين ، و «موسى» عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشريعة القويّة القاهرة ، والمعجزات الظاهرة و «زكريا» و «يحيى» و «عيسى» و «إلياس» كانوا أصحاب الزّهد ، و «إسماعيل» كان صاحب الصّدق و «يونس» كان صاحب التّضرّع.
وثبت أنه ـ تعالى ـ إنما ذكر كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه خصلة معيّنة من خصال المدح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمدا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكان التقدير كأنه ـ تعالى ـ أمر محمدا أن يجمع من خصال العبوديّة والطاعة كل الصفات التي كانت متفرّقة فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله ـ تبارك وتعالى ـ بذلك امتنع أن يقال : إنه قصّر في تحصيلها ، فثبت أنه حصّلها ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه أفضلهم بكليتهم(١).
قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين ، وكان من جملة هدايتهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين ، وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم في ذلك فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [و «الهاء» في «عليه»](٢) تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السّياق عليهما ، و «أن» نافية ولا عمل لها على المشهور ، ولو كانت عاملة لبطل عملها ب «إلّا» في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى) أن يذكره ويعظه. «وللعالمين» متعلق ب «ذكرى» و «اللام» معدية أي : إن القرآن العظيم إلّا تذكير للعالمين ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف على أنها صفة للذّكرى ، وهذه الآية تدلّ على أنه صلىاللهعليهوسلم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم.
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٨.
(٢) سقط في ب.