وذكر العنب عقيب النخل ؛ لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ؛ لأنه أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال ، فأول ما يظهر على الشجر خيوط خضر رقيقة حامضة الطعم لذيذة ، وقد يمكن اتّخاذ الصبائغ منه ، ثم يظهر بعده الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحّاء والمرضى ، وقد يتخذون من الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، لأنه ألذّ الطبائخ الحامضة ، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [وأشهاها فيمكن ادّخار العنب المعلق سنة أو أكثر وهو ألذ الفواكه](١) المدّخرة ، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات : وهي الزّبيب والدبس والخمر والخلّ ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا في مجلدات والخمر فإن كان الشّرع قد حرّمها ، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ثم قال : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة ، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه ، وأما الزّيتون فهو أيضا كثير النّفع كثير البركة ؛ لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل عنه أيضا دهن كثير عظيم النفع في الأكل ، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب (٢) جدا ؛ لأنه جسم مركّب من أربعة أقسام : قشره وشحمه وعجمه وماؤه ، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم ، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وأما ماء الرمان فبالضّدّ من هذه الصفات ، فإنه ألذّ الأشربة وألطفها ، وأقربها (٣) إلى الاعتدال ، وأشدّها مناسبة للطّبائع المعتدلة ففيه تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ، ودواء من وجه آخر ، فإذا تأمّلت في الرّمّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافة التامة الأرضية ، ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرّمّان في غاية اللّطافة والاعتدال ، فكأنه تبارك وتعالى جمع فيه بين المتضادّين المتغايرين ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم.
نبّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [التي هي أشرف أنواع النبات](٤) على الباقي.
قوله : «مشتبها» حال ؛ إما من «الرّمّان» لقربه ، وحذفت الحال من الأول ؛ تقديره : والرمان مشتبها ، ومعنى التشابه أي في اللّون ، وعدم التشابه أي في الطعم.
وقيل : هي حال من الأول ، وحذفت حال الثاني ، وهذا كما تقدّم في الخبر المحذوف ، نحو : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وإلى هذا نحا الزمخشري (٥) ، فإنه قال : تقديره: والزيتون مشتبها ، وغير مشتبه ، والرمان كذلك ؛ كقول القائل في ذلك : [الطويل]
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في ب : عظيم.
(٣) في ب : وأقومها.
(٤) سقط في ب.
(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.