والجواب : أن الدليل العقليّ قد ساعد على صحّة ظاهر هذه الآية الكريمة ؛ لأن الفعل موقوف على الداعي ، وخالق الداعي هو الله ـ تعالى ـ ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، وذلك [يقتضي](١) كونه ـ تعالى ـ خالق كل شيء فاعبدوه ، ويدلّ على أن كونه خالقا لكل الأشياء سبب للأمر [بالعبادة](٢) لأنه رتب الأمر بالعبادة على كونه خالقا للأشياء بفاء التعقيب ، وترتيب الحكم مشعر بالسّببيّة.
فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن
احتجّ كثير من (٣) المعتزلة بقوله تبارك وتعالى : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على نفي الصفات ، وعلى كون القرآن مخلوقا ، أما نفي الصّفات ، فإنهم قالوا : لو كان ـ تعالى ـ عالما بالعلم قادرا بالقدرة لكان ذلك العلم والقدرة إما أن يقال : إنهما قديمان أو محدثان ، والأوّل باطل ؛ لأن عموم قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يقتضي كونه ـ تبارك وتعالى ـ خالقا لكلّ الأشياء وخصّصنا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه ، فيبقى على عمومه فيما عداه.
وإن قلنا بحدوث علم الله تعالى وقدرته ، فهو باطل بالإجماع ، ولأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر ، وقدرة أخرى ، وذلك محال. أمّا تمسّكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا فقالوا : لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مخلوق لله ـ تبارك وتعالى ـ بحكم هذا العموم وأقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التّخصيص في ذات الله ـ تبارك وتعالى ـ إلّا أن العام المخصوص حجّة في غير محلّ التخصيص.
وجوابه : أن تخصيص هذا العموم بالدّلائل الدّالّة على أن كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ قديم.
قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣)
قال سعيد بن المسيّب : لا تحيط به الأبصار.
وقال عطاء : كلّت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به.
وقال ابن عبّاس : لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة (٤).
قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي : لا يخفى عليه شيء ولا يفوته (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
قال ابن عباس : اللّطيف بأوليائه ، الخبير بهم (٥).
وقال الأزهري (٦) : اللّطيف الرفيق بعباده.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : بالعداوة.
(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٠.
(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ٧ / ٣٠٧.
(٥) ينظر : المصدر السابق.
(٦) ينظر : تهذيب اللغة ١٣ / ٣٤٧.