فأما القول بأنه ـ تعالى ـ تجوز رؤيته ، مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين ، فهذا قول لم يقل به أحد من الأمّة ، فكان باطلا (١).
الثاني : أن نقول : المراد ب «الأبصار» في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ليس هو نفس الإبصار ، فإن البصر لا يدرك شيئا ألبتة في موضع من المواضع ، بل المدرك هو المبصر ، فوجب القطع بأن المراد من قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) هو إدراك المبصرين ، ومعتزلة (٢) البصرة يوافقون بناء على أنه ـ تعالى ـ يبصر الأشياء ، فكان تعالى من جملة المبصرين ، فقوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) يقتضي كونه تعالى مبصرا لنفسه ومن قال : إن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، فدلّت الآية الكريمة على أنه جائز الرؤية ، وعلى أنّ المؤمنين يرونه يوم القيامة ، وإذا اختصرنا هذا الاستدلال قلنا قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) المراد منه إنما نفس البصر ، أو المبصر على التقديرين يلزم كونه ـ تعالى ـ مبصرا لإبصار نفسه ، أو كونه مبصرا لذات نفسه ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه [المؤمنون](٣) يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق (٤).
الثالث : أن لفظ «الأبصار» صيغة جمع دخل عليها الألف واللام ، فهي تفيد الاستغراق في قوله : (تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).
[فإذا كان كذلك كان قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(٥) يفيد أنه لا تراه جميع الأبصار ، فهذا يفيد سلب العموم ، ولا يفيد عموم السّلب ، وإذا عرف هذا فنقول : تخصيص هذا السّلب بالمجموع يدلّ على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع ؛ ألا ترى أن الرّجل إذا قال : إن زيدا ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم ، وإذا قيل : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس ، فكذلك قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) معناه أنه : لا تدركه كل الأبصار ، فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار أقصى ما في الباب أن يقال : هذا تمسّك بدليل الخطاب ، فنقول : هب أنه كذلك إلّا إنه دليل صحيح ؛ لأن بتقدير ألّا يحصل الإدراك لأحد البتّة كان تخصيص هذا السّلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثا ، وصون كلام الله ـ تعالى ـ عن العبث واجب.
الرابع : نقل أن ضرار بن عمرو الكوفيّ كان يقول : إن الله ـ تعالى ـ لا يرى بالعين ، وإنما يرى بحاسّة سادسة يخلقها يوم القيامة واحتج بهذه الآية الكريمة ، فقال : دلّت [هذه] الآية الكريمة على تخصيص نفي إدراك الله ـ تبارك وتعالى ـ بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله ـ تبارك وتعالى ـ بغير البصر جائزا في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواسّ الموجودة
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٢.
(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٣.
(٣) سقط في أ.
(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٣.
(٥) سقط في ب.