الآن لا تصلح لذلك وجب أن يقال : إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسّة سادسة بها تحصل رؤية الله ـ تعالى ـ (١) وإدراكه.
واستدلّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة على نفي الرّؤية من وجهين :
الأول : قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرّؤية بدليل لو قال قائل : أدركته ببصري ، وما رأيته ، أو قال : رأيته ، وما أدركته ببصري ، فإنّ كلامه يكون متناقضا ، فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرّؤية ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال ، ويدل على صحّة هذا العموم وجهان :
الأول : أنه يصح استثناء جميع الأشخاص ، وجميع الأحوال عنه ، فيقال : لا تدركه الأبصار إلّا بصر فلان وإلّا في الحالة الفلانيّة ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن عموم هذه الآية الكريمة يفيد عموم النفي عن كلّ الأشخاص ، وفي جميع الأحوال ، وذلك يدلّ على أن أحدا لا يرى الله ـ تعالى ـ في حال من الأحوال.
الثاني : أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما أنكرت قول ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ في أنّ محمدا صلىاللهعليهوسلم رأى ربّه ليلة المعراج تمسّكت بهذه الآية ، ولو لم تكن هذه الآية تفيد العموم بالنسبة إلى كلّ الأشخاص ، وكلّ الأحوال لما تمّ ذلك الاستدلال ، وكانت من أعظم (٢) الناس بلغة العرب.
الوجه الثاني : أن قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مدح وثناء ، فوجب أن يكون قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) مدحا وثناء ، وإلّا لزم أن يقال : إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء ، وذلك يوجب الرّكاكة وهي غير لائقة بكلام الله ـ تبارك وتعالى ـ وإذا ثبت هذا فنقول: كل ما كان عدمه (٣) مدحا ، ولم يكن من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حقّ الله ـ تبارك وتعالى ـ والنّقصان على الله محال. واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل ؛ لأنه تعالى تمدّح بنفي الظّلم عن نفسه في قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ١٠٨] (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] مع أنه تبارك وتعالى قادر على الظّلم عندهم ، وذكروا هذا القيد دفعا لهذا النّقض عن كلامهم فهذا [غاية](٤) تقرير كلامهم في هذا الباب.
والجواب عن الأوّل من وجوه :
أحدها : لا نسلّم أن إدراك البصر عبارة عن الرّؤية ؛ لأن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللّحوق والوصول ؛ قال تعالى : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١]
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٣.
(٢) في أ : أهل.
(٣) في أ : عريمه.
(٤) سقط في أ.