ورابعها : سلّمنا أن الأبصار لا تدرك الله ـ تبارك وتعالى ـ فلم لا يجوز حصول إدراك لله تبارك وتعالى بحاسّة سادسة مغايرة لهذه الحواسّ ، كما قال ضرار بن عمرو به ، وعلى هذا التقدير فلا يبقى بالتمسّك بهذه الآية الكريمة فائدة.
وخامسها : هب أن هذه الآية عامّة ، إلّا أنّ الآيات الدّالّة على إثبات رؤية الله تعالى خاصّة ، والخاصّ مقدّم على العام ، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنّ بيان أن تلك الآيات هل تدلّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟
وسادسها : أن نقول بموجب الآية الكريمة ، فنقول : سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله ـ تعالى ـ فلم قلتم : إن المبصرين لا يدركون الله تعالى.
وأما الوجه الثاني فقد بيّنّا أنه يمتنع حصول التّمدّح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته ، ثم إنه تبارك وتعالى يحجب الإبصار عن رؤيته فسقط كلامهم بالكلية ، ثم نقول : إن النفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء ، لأن النّفي المحض ، والعدم الصرف لا يكون سببا موجبا إلى المدح والثناء ، والعلم به ضروري ، بل إذا كان النّفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء ، فإن ذلك النّفي يوجب المدح.
مثاله : أن قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] أن هذا النفي في حقّ الباري ـ تعالى ـ يدل على كونه عالما بجميع المعلومات أبدا من غير تبدّل ولا زوال ، وكذا قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] يدلّ على كونه قائما بنفسه غنيّا في ذاته ؛ لأن الجماد أيضا لا يأكل ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا فقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يمتنع أن يفيد المدح والثناء ، إلا إذا دلّ على معنى موجود يفيد المدح والثناء ، وذلك هو الذي قلنا : إنه ـ تبارك وتعالى ـ قادر على حجب الأبصار ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته ، فانقلب الكلام على المعتزلة ، وسقط الاستدلال. واعلم أن القاضي ذكر وجوها أخر تدلّ على نفي الرؤية ، وهي خارجة عن التّمسّك بهذه الآية الكريمة.
فأولها : أن الحاسّة إذا كانت سليمة ، وكان المرئي حاضرا ، وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة ، وهو ألّا يحصل القرب القريب ، ولا البعد البعيد ، ولا يحصل الحجاب ، ويكون المرئي مقابلا ، أو في حكم المقابل ، فإنه يجب حصول الرؤية ؛ إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نسمعها ولا نراها ، وذلك يوجب السّفسطة وإذا ثبت هذا فنقول: إن انتفاء القرب القريب ، والبعد البعيد ، والحجاب ، وحصول المقابلة في حق الله ـ تعالى ـ ممتنع ، فلو صحّت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسّة ، وكون المرئي بحيث تصحّ رؤيته.
وثانيها : أنّ كل ما كان مرئيا كان مقابلا ، أو في حكم المقابل ، والله ـ تعالى ـ ليس كذلك ، فوجب أن تمتنع رؤيته.