مشعر بأنّ إقدامهم على ذلك المنكر إنّما كان بتزيين الله تعالى ، فأمّا أن يحمل ذلك على أنّه ـ تبارك وتعالى ـ زيّن الأعمال الصّالحة في قلوب الأمم ، فكان هذا كلام منقطع عما قبله ، وأيضا : فقوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) : يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة ، فتخصيص هذا الكلام بالأمّة المؤمنة ، ترك لظاهر العموم.
قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١٠)
قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية الكريمة.
لما طعنوا في النّبوّة بمدارسة العلماء ، حتى عرف التّوراة والإنجيل ، ثم جعل السّور والآيات بهذا الطّريق ، وأجاب الله ـ تعالى ـ عن هذه الشّبهة ، ذكر في هذه الآية شبهة لهم أخرى ، وهي أنّ هذا القرآن العظيم ليس من جنس المعجزات البيّنة ، ولو أنّك يا محمّد جئتنا بمعجزة وبيّنة باهرة ، لآمنّا بك وحلفوا على ذلك ، وبالغوا على ذلك في تأكيد الحلف.
قال الواحدي (١) : إنّما سمّي اليمين بالقسم ؛ لأن اليمين موضوعة لتأكيد الخبر الّذي يخبر به الإنسان : إمّا مثبتا للشّيء ، وإمّا نافيا ، ولما كان الخبر يدخله الصّدق والكذب ، احتاج المخبر إلى طريق به يتوسّل إلى ترجيح جانب الصّدق على جانب الكذب ، وذلك هو الحلف ، ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف ، إنّما تحصل عن انقسام النّاس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدّق به ومكذّب به ، سمّوا الحلف بالقسم ، وبنوا تلك الصّيغة على «أفعل» وقالوا : أقسم فلان يقسم إقساما ، وأرادوا : أنه أكّد القسم الذي اختاره ، وأحال الصّدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين.
قوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) تقدم الكلام عليه في «المائدة» (٢).
وقرأ طلحة بن مصرّف (٣) : «ليؤمنن» مبنيا للمفعول مؤكّدا بالنون الخفيفة ، ومعنى (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : قال الكلبيّ ومقاتل : اذا حلف الرّجل بالله جهد يمينه (٤) ، وقال الزّجّاج (٥) : بالغوا في الأيمان.
فصل في سبب النزول
قال محمّد بن كعب القرظي : قالت قريش : يا محمّد إنّك تخبرنا أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ كانت معه عصا يضرب بها الحجر ، فينفجر منه الماء اثنتي عشرة عينا ،
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٧.
(٢) الآية : ٥٣.
(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٤.
(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١١٧ ـ ١١٨).
(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٨.