فصل في معنى الآية
قال عطاء : المعنى : أخذلهم ، وأدعهم في ضلالتهم يتمادون (١).
قال الجبّائي (٢) : المعنى : ونذرهم ، أي : لا نحول بينهم وبين اختيارهم من ذلك لكن نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره ، لكنّا نمهلهم إن أقاموا على طغيانهم ، فذلك من قبلهم وهو يوجب تأكيد الحجّة عليهم.
وقال أهل السّنّة (٣) : نقلّب أفئدتهم من الحقّ إلى الباطل ، ونتركهم في ذلك الطّغيان ، وفي ذلك الضّلال والعمه.
ويقال للجبّائي : إنّك تقول : إن إله العالم ما أراد بعباده إلّا الخير والرّحمة ، فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه؟ ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر؟ أقصى ما في الباب ؛ أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقا إلى الثّواب ، فيفوته الاستحقاق فقط ، وقد يسلم من العقاب ، أمّا إذا تركه في ذلك العمه مع علمه بأنه يموت عليه ، فإنه لا يحصل له استحقاق الثّواب ، ويحصل له العقاب العظيم الدّائم ، فالمفسدة الحاصلة عن خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء ، مفسدة واحدة ؛ وهي فوات استحقاق الثّواب مع حصول العقاب الشّديد ، والرّحيم المحسن النّاظر إلى عباده ، لا بدّ وأن يرجّح الجانب الّذي هو أكثر إصلاحا ، وأقل فسادا ، فعلمنا أنّ إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمه والطّغيان ، يقدح في أنّه لا يريد به إلّا الخير والإحسان (٤).
قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(١١١)
اعلم : أنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن في هذه الآية الكريمة تفصيل ما ذكره مجملا في قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بيّن أنّه ـ تعالى ـ لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة حتّى رأوهم عيانا ، وإحياء الموتى حتّى كلّموهم ، وشهدوا لك بالنّبوّة كما سألوا ، بل زاد في ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كلّ شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا إلّا أن يشاء الله.
قال ابن عبّاس : المستهزئون بالقرآن العظيم كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السّهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزّهري ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن حنظلة ، ثمّ إنّهم أتوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ورهط من أهل مكّة المشرّفة ، وقالوا له : أرنا الملائكة يشهدوا بأنّك رسول الله ، أو ابعث لنا بعض موتانا
__________________
(١) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٢٣.
(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٢.
(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٢.
(٤) ينظر : المصدر السابق.