فصل في معنى الإنسان
قالوا : الإنسان شيء مغاير للبدن ، ثم اختلفوا : منهم من قال : المتعلّق الأوّل هو القلب ، وبواسطته تتعلّق النّفس ؛ كسائر الأعضاء ، كالدّماغ ، والكبد ، ومنهم من قال : القلب متعلّق النّفس الحيوانيّة ، والدّماغ متعلّق النّفس النّاطقة ، والكبد متعلّق النّفس الطّبيعيّة ، والأوّلون تمسّكوا بهذه الآية الكريمة ؛ فإنه ـ تبارك وتعالى ـ جعل محلّ الصّغى الذي هو عبارة عن الميل والإرادة : القلب ، فدلّ على أنّ متعلّق النّفس : القلب.
قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١١٤)
لمّا حكى عن الكفّار أنّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، لئن جاءتهم آية ، ليؤمننّ بها ، وأجاب عنه : بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات ؛ لأنّه ـ تعالى ـ لو أظهرها ، لبقوا مصرّين على كفرهم ، بيّن في هذه الآية أنّ الدّليل الدّال على نبوته ، قد حصل فكلّ ما طلبوه من الزّيادة ، لا يجب الالتفات إليه.
قوله : «أفغير» يجوز نصب «غير» من وجهين :
أحدهما : أنّه مفعول ل «أبتغي» مقدّما عليه ، وولي الهمزة لما تقدّم في قوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤] ويكون «حكما» حينئذ : إمّا حالا ، وإمّا تمييزا ل «غير» ذكره الحوفيّ ، وأبو البقاء (١) ، وابن عطيّة (٢) ؛ كقولهم : «إنّ لنا غيرها إبلا».
الثاني : أن ينتصب «غير» على الحال من «حكما» لأنّه في الأصل يجوز أن يكون وصفا له ، و «حكما» هذا المفعول به ؛ فتحصّل في نصب «غير» وجهان ، وفي نصب «حكما» ثلاثة أوجه : كونه حالا ، أو مفعولا ، أو تمييزا. والحكم أبلغ من الحاكم.
قيل : لأنّ الحكم من تكررّ منه الحكم ، بخلاف الحاكم ، فإنه يصدّق غيره.
وقيل : لأنّ الحكم لا يحكم إلا بالعدل ، والحاكم قد يجور ، ومعنى الآية الكريمة : قل لهم يا محمّد : أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم ، وذلك أنّهم كانوا يقولون للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : اجعل بيننا وبينك حكما ، فأجابهم به.
قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل : «أبتغي» ، و «مفصّلا» : حال من «الكتاب» أي مبيّنا فيه أمره ونهيه ، والمراد بالكتاب : القرآن العظيم ، وقيل «مفصّلا» أي : خمسا خمسا ، وعشرا عشرا ، كما قال : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢].
وقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : مبتدأ ، «ويعلمون» : خبره ، والجملة مستأنفة ،
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٧.