و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من «دار» ويجوز أن ينتصب «عند» بنفس «السّلام» ؛ لأنه مصدر ، أي : يسلّم عليهم عند ربّهم ، أي : في جنّته ، ويجوز أن ينتصب بالاستقرار في «لهم».
وقوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يحتمل أيضا الاستئناف ، وأن يكون حالا ، أي : لهم دار السلام ، والحال أن الله وليّهم وناصرهم.
(وَبِما كانُوا) الباء سببيّة ، و «ما» بمعنى الّذي ، أو نكرة أو مصدريّة.
فصل في معنى السلام
قيل : السّلام اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ والمعنى : دار الله كما قيل : الكعبة بيت الله ، والخليفة عبد الله.
وقيل : السّلام صفة الدّار بمعنى : دار السّلامة ، والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها ، يقولون : ضلال وضلالة ، وسفاه وسفاهة ، ورضاع ورضاعة ، ولذاذ ولذاذة.
وقيل : السّلام جمع السّلامة ، وإنّما سمّيت الجنّة بهذا الاسم ؛ لأن أنواع السّلامة بأسرها حاصلة فيها ، وفي المراد بهذه العنديّة وجوه :
أحدها : أنّها معدّة عنده كما تكون الحقوق معدّة مهيأة حاضرة ؛ كقوله : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [البينة : ٨].
ثانيها : أن هذه العنديّة تشعر بأن هذا الأمر المؤخّر موصوف بالقرب من الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وهذا ليس قرب بالمكان والجهة ، فوجب كونه بالشّرف والرّتبة ، وذلك يدلّ على أن ذلك الشّيء بلغ في الكمال والرّفعة إلى حيث لا يعرف كنهه ، إلّا أنه كقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧].
وثالثها : هي كقوله في صفة الملائكة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] ، وقوله : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» (١) ، و «أنا عند ظنّ عبدي بي» (٢) ، وقال ـ تعالى ـ : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] ، وقال : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [البينة: ٨] وكل ذلك يدلّ على أنّ حصول كمال صفة العنديّة بواسطة صفة العبوديّة.
وقوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يدل على قربهم من الله ؛ لأن الوليّ معناه القريب ، لا وليّ لهم إلّا هو ، ثم قال : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ وإنما ذكر ذلك لئلّا ينقطع العبد عن العمل.
__________________
(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٢٠٣) وقال : قال في المقاصد : ذكره في البداية للغزالي وقال القارىء عقبه : ولا يخفى أن الكلام في هذا المقام لم يبلغ الغاية.
(٢) تقدم تخريجه.