الثّواب والعقاب ، بيّن أنه غير محتاج إلى ثواب المطيعين ، أو ينتقص بمعصية المذنبين ؛ لأنه ـ تعالى ـ غنيّ لذاته عن جميع العالمين ، ومع كونه غنيا ، فإنّ رحمته عامّة كاملة.
قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : ذو الرّحمة بأوليائه وأهل طاعته.
قوله : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) يجوز أن يكون الغنيّ والرّحمة خبرين أو وصفين ، و «إن يشأ» وما بعده خبر الأوّل ، أو يكون «الغنيّ» وصفا و (ذُو الرَّحْمَةِ) خبرا ، والجملة الشّرطيّة خبر ثان أو مستأنف.
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة : هذه الآية الكريمة دالّة على كونه عادلا منزّها عن فعل القبيح ، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيّا عنه ، وكلّ من كان كذلك ، فإنّه متعال عن فعل القبيح ، وتقريره من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن في الحوادث ما يكون قبيحا ؛ كالظّلم والسّفه والكذب والعبث ، وهذا غير مذكور في الآية لغاية ظهوره.
وثانيها : أنه ـ تعالى ـ عالم بالمعلومات ؛ لقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
وثالثها : أنه ـ تعالى ـ غنيّ عن الحاجات ؛ لقوله : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) وإذا ثبتت هذه المقدّمات ، ثبت أنه عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيّا عنها ، وإذا ثبت هذا ، امتنع كونه فاعلا لها ؛ لأن المقدم على فعل القبيح إمّا أن يكون إقدامه لجهله بكونه قبيحا ، وإما لاحتياجه ، فإذا كان عالما بالكلّ ، امتنع كونه جاهلا بقبح القبائح ، وذلك يدلّ على أنه ـ تعالى ـ منزّه عن فعل القبيح ، فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحدا فلما كلّف عبيده الأفعال الشّاقّة ، وجب أن يثيبهم عليها ، ولما رتّب العقاب (١) على فعل المعاصي ، وجب أن يكون عادلا فيها ، فحينئذ انتفى الظّلم عن الله ـ تعالى ـ ، فما الفائدة في التكليف؟.
قال ابن الخطيب (٢) : والجواب أن التكليف إحسان ورحمة على ما قرّر في كتب الكلام.
قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) فقيل : المراد يهلككم يا أهل مكّة ، وقيل : يميتكم ، وقيل : يحتمل ألّا يبلغهم مبلغ التّكليف ، ويستخلف من بعد إذهابكم ؛ لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل.
قوله : «ما يشاء» يجوز أن تكون «ما» واقعة على ما هو من جنس الآدميّين ، وإنّما أتى ب «ما» وهي لغير العاقل للإبهام الحاصل ، ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنّه يأتي بجنس آخر ، ويجوز أن تكون واقعة على النّوع من العقلاء كما تقدّم.
__________________
(١) في أ : العذاب.
(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦٥.