مراعاته ، فيكون ذلك كقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ) [النور : ٤٠] ، أي : أو كذا ظلمات ، ولذلك أعاد الضمير في يغشاه عليه».
قال شهاب الدّين (١) : فيبقى التّقدير : مختلفا أكل ثمر الجنّات وما بعدها ، [وهذا] يلزم منه إضافة الشّيء إلى نفسه ؛ لأن الأكل كما تقدّم غير مرّة أنه الثّمر المأكول.
قال الزمخشري (٢) في الأكل : «وهو ثمره الذي يؤكل».
وقال ابن الأنباري : إن «مختلفا» نصب على القطع ، فكأنه قال : «والنّخل والزّرع المختلف أكلهما» وهذا رأي الكوفيّين ، وقد تقدم إيضاحه غير مرّة.
وقوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقد تقدّم إيضاحه [الأنعام : ٩٩].
قال القرطبيّ (٣) : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) عطف عليه ، (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) نصب على الحال ، وفي هذه أدلّة ثلاثة :
أحدها : ما تقدّم من إقامة الدّليل على أنّ المتغيّرات لا بدّ لها من مغيّر.
الثاني : أن الدّلالة على المنّة منه ـ سبحانه وتعالى ـ علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألّا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألّا يكون جميل المنظر طيّب الطّعم ، وإذا خلقه كذلك ألّا يكون سهل الجني ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ؛ لأنه لا يجب عليه شيء.
الثالث : الدّلالة على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب ، يصعد بقدرة علّام الغيوب من أسافل الشّجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها ، نشأ فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من الجرم الوافر ، واللّون الزّاهر ، والجنى الجديد ، والطّعم اللذيذ ؛ فأين الطّباع وأجناسها؟ وأين الفلاسفة وأناسها؟ هل في قدرة الطّبيعة أن تتقن هذا الإتقان ، أو ترتّب هذا التّرتيب العجيب؟ كلّا لم يتمّ ذلك في العقول إلّا بتدبير عالم قدير مريد ، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية!
فصل في المقصود من خلق المنافع
لما ذكر كيفيّة خلقه لهذه الأشياء ، ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها ، وهو انتفاع المكلّفين ؛ فقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) واختلفوا ما الفائدة منه؟
قال بعضهم : فائدته الإباحة.
وقال آخرون : المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحقّ ؛ لأنه ـ تعالى ـ لمّا أوجب الحقّ فيه ، كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمشاركة المساكين ، بل هذا هو
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٢.
(٣) ينظر : القرطبي ٧ / ٦٥.