قال أبو حيّان (١) : «هذا الرّد ليس بجيّد ؛ لأنه إذا جعلنا «ليجمعنّكم» صالحا لخطاب جميع النّاس كان «الّذين» بدل بعض ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ، تقديره : خسروا أنفسهم فيهم وقوله : «فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصّون بالخطاب ، وخصّوا على جهة الوعيد» ، وهذا يقتضي أن يكون بدل كلّ من كلّ ، فتناقض أوّل كلامه مع آخره ؛ لأنه من حيث الصّلاحيّة بدل بعض ، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كلّ ، فتناقضا».
قال شهاب الدّين (٢) : ما أبعده عن التّناقض ؛ لأن بدل البعض من الكلّ من جملة المخصّصات (٣) ، كالتخصيص بالصّفة (٤) والغاية (٥) والشرط (٦) ، نصّ العلماء ـ رضي الله عنهم
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨٧.
(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٨.
(٣) التخصيص بالبدل : أعني بدل البعض من الكل ، نحو : أكلت الرغيف ثلثه ، ومنه قوله تعالى : ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [المائدة : ٧١] ذكره ابن الحاجب في مختصره. وأنكره الصفي الهندي ، قال : لأن المبدل كالمطروح ، فلم يتحقق فيه معنى الإخراج ، والتخصيص لا بد فيه من الإخراج ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران : ٩٧] ، أن تقديره : ولله حج البيت على من استطاع ؛ وكذا أنكره الأصفهاني شارح «المحصول» ، وهذا أحد المذاهب فيه ، والأكثرون على أنه ليس في نية الطرح.
قال السّيرافي : زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول ، وهو المبدل منه ، ولا يريدون بذلك إلغاءه ، وإنما مرادهم: أن البدل قائم بنفسه ، وليس تبيينا للأول ؛ كتبيين النعت الذي هو تمام المنعوت ، وهو معه كالشيء الواحد ، ومنهم من قال لا يحسن عدّ البدل ؛ لأن الأول في قولنا : أكلت الرغيف ثلثه ، يشبه العام المراد به الخصوص ، لا العام المخصوص.
تنبيهان : الأول : إذا جعلناه من المخصصات ، فلا يجيء فيه خلاف الاستثناء في اشتراط بقاء الأكثر : بل سواء قلّ ذلك البعض أو ساواه أو زاد عليه ، كأكلت الرغيف ثلثه ، أو نصفه ، أو ثلثيه.
الثاني : يلتحق ببدل البعض في ذلك بدل الاشتمال ؛ لأن في كليهما بيانا وتخصيصا للمبدل منه. ينظر البحر المحيط ٣ / ٣٥٠.
(٤) والمراد بها : المعنوية لا النعت بخصوصه ، نحو : أكرم العلماء الزهاد ، فإن التقييد بالزهاد يخرج غيرهم. قال إمام الحرمين في باب القضاء من «النهاية» : الوصف عند أهل اللغة معناه : التخصيص ، فإذا قلت : رجل ، شاع هذا في ذكر الرجال ، فإذا قلت : طويل ، اقتضى ذاك تخصيصا ، فلا تزال تزيد وصفا ، فيزداد الموصوف اختصاصا ، وكلما كثر الوصف قل الموصوف. اه.
وهي كالاستثناء في وجوب الاتصال وعودها إلى الجمل. قال المازري : ولا خلاف في اتصال التوابع وهي النعت ، والتوكيد ، والعطف ، والبدل ، وإنما الخلاف في الاستثناء. وقال بعضهم : الخلاف في الصفة النحوية ، وهي التابع لما قبله في إعرابه ، أما الصفة الشرطية فلا خلاف فيها.
وقال أبو البركات بن تيمية : فأما الصفات وعطف البيان والتوكيد والبدل ونحوها من المخصصات ، فينبغي أن تكون بمنزلة الاستثناء. وقال الإمام فخر الدين : إذا تعقبت الصفة شيئين ، فإما أن تتعلق إحداهما بالأخرى ، نحو : أكرم العرب والعجم المؤمنين عادت إليهما ، وإما ألّا يكون كذلك ، نحو : أكرم العلماء ، وجالس الفقهاء الزهاد ، فههنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة ، وللبحث فيه مجال كما في الاستثناء. وقال الصفي الهندي : إن كانت الصفات كثيرة ، وذكرت على الجمع عقب جملة تقيدت بها ، أو على البدل ، فلواحدة غير معينة منها ، وإن ذكرت عقب جمل ، ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة الخلاف. ـ