وقدّم تبارك وتعالى مسّ الضّرّ على مسّ الخير لمناسبة اتّصال مسّ الضّرّ بما قبله من التّرهيب المدلول عليه بقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ) ، وجاء جواب الشّرط الأوّل بالحصر إشارة إلى استقلاله بكشف الضّرّ دون غيره ، وجاء الثاني بقوله تعالى (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشارة إلى قدرته الباهرة ، فيندرج فيها المسّ بخير وغيره ، على أنّه لو قيل : إنّ جواب الثاني محذوف لكان وجها أي : وإن يمسسك بخير فلا رادّ لفضله ، للتصريح بمثله في موضع آخر.
فصل
روى ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «أهدي للنّبي صلىاللهعليهوسلم بغلة أهداها له كسرى ، فركبها بحبل من شعر ، ثمّ أردفني خلفه ، ثمّ صار بي مليّا ، ثمّ التفت إليّ وقال (١) : يا غلام فقلت : لبّيك يا رسول الله فقال احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشّدّة ، وإذا سألت فأسأل الله ، وإن استعنت فاستعن بالله ، فقد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق على أن ينفعوك بشيء لم (٢) يقضه الله سبحانه لك لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك عمّا لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصّبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع ، فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا ، واعلم أنّ النّصر مع الصّبر ، وأنّ مع الكرب الفرج ، وأنّ مع العسر يسرا» (٣).
قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(١٨)
والمراد بالقاهر الغالب ، وفي «القاهر» زيادة معنى على القدرة وهو منع غيره من بلوغ المراد.
وقيل : المنفرد بالتّدبير الذي يجبر الخلق على مراده.
قوله : «فوق» فيه أوجه (٤) :
أظهرها : أنه منصوب باسم الفاعل قبله ، والفوقيّة هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة.
والثاني : أنه مرفوع على [أنه] خبر ثان ، أخبر عنه بشيئين :
أحدهما : أنه قاهر.
والثاني : أنه فوق عباده بالغلبة.
والثالث : أنه بدل من الخبر.
والرابع : أنه منصوب على الحال من الضمير في «القاهر» كأنه قيل : وهو القاهر
__________________
(١) في ب : فقال.
(٢) في ب : بما لا.
(٣) أخرجه الحاكم (٣ / ٥٤١) من حديث ابن عباس وقال : هذا حديث عال كبير.
وله طريق آخر بلفظ مختصر عند الترمذي (٢٥١٦) وقد تقدم تخريجه.
(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦.