قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) «إن» نافية ، و «هي» مبتدأ ، و «حياتنا» خبرها ، ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورة في نفي وإثبات ، و «هي» ضمير مبهم يفسّره خبره ، أي : ولا نعلم ما يراد به إلّا بذكر (١) خبره ، وهو من الضمائر التي يفسّرها ما بعدها لفظا ورتبة وقد تقدم ذلك عند قوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] وكون هذا مما يفسره ما بعده لفظا ورتبة فيه نظر ، إذ لقائل أن يقول : «هي» تعود على شيء دلّ على سياق الكلام ، كأنهم قالوا : إنّ العادة المستمرة ، أو إن حالتنا وما عهدنا إلّا حياتنا الدنيا ، واستند هذا القائل إلى قول الزّمخشري : «هذا ضمير لا يعلم ما يراد به إلّا بذكر ما بعده».
ومثّل الزمخشري بقول العرب «هي النّفس تتحمّل ما حمّلت» (٢) و «هي العرب تقول ما شاءت». وليس فيما قاله الزمخشري دليل له ؛ لأنه يعني أنه لا يعلم ما يعود عليه الضمير إلّا بذكر ما بعده ، وليس في هذا ما يدلّ على أن الخبر مفسّر للضمير.
ويجوز أن يكون المعنى : إن الحياة إلا حياتنا الدّنيا ، فقوله (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) دالّ على ما يفسّر الضمير ، وهو الحياة مطلقا ، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يراد به إلّا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيّة التفسير ، ويدلّ على ما قلنا قول أبي البقاء (٣) ـ رحمهالله تعالى ـ : هي كناية عن الحياة ، ويجوز أن يكون ضمير القصّة.
قال شهاب الدين (٤) ـ رحمهالله تعالى ـ : أمّا أوّل كلامه فصحيح ، وأمّا آخره وهو قوله : «إن هي (٥) ضمير القصّة» فليس بشيء ؛ لأن ضمير القصّة لا يفسّر إلّا بجملة مصرّح بجزأيها.
فإن قيل : الكوفي يجوّز تفسيره بالمفرد ، فيكون نحا نحوهم؟.
فالجواب أنّ الكوفيّ إنما يجوّزه بمفرد عامل عمل الفعل ، نحو : «إنه قائم زيد» و «ظننته قائما زيد» لأنه في صورة الجملة ؛ إذ في الكلام مسند ومسند إليه.
أما نحو «هو زيد» فلا يجيزه أحد ، على أن يكون «هو» ضمير شأن لا قصّة ، والدنيا صفة الحياة ، وليست صفة مزيلة اشتراكا عارضا ، يعني : أن ثمّ حياة غير دنيا يقرّون بها ؛ لأنهم لا يعرفون إلّا هذه ، فهي صفة لمجرد التوكيد ، كذا قيل ، ويعنون بذلك أنها لا مفهوم لها ، وإلّا فحقيقة التوكيد غير ظاهرة بخلاف (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣].
و «الباء» في قوله : «بمبعوثين» زائدة لتأكيد الخبر المنفي ، ويحتمل مجرورها أن يكون منصوب المحلّ على أنّ «ما» هاهنا حجازية ، أو مرفوعة على أنها تميمية.
__________________
(١) في ب : تذكر.
(٢) ينظر : الهمع ١ / ٦٦.
(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٩.
(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٢.
(٥) في ب : هو.