ينكر أحد من السّلف الصّالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخصّ العرش بذلك ؛ لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء ، فإنّه لا تعلم حقيقته ، كما قال مالك ـ رحمهالله ـ : «الاستواء معلوم ـ يعني في اللغة ـ والكيف مجهول ، والسّؤال عن هذا بدعة» (١) ، وكذلك قالت أمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ ، وهذا القدر كاف (٢).
فصل في معنى الاستواء
فإن قيل الاستواء في اللّغة : هو العلوّ والاستقرار.
قال الجوهريّ (٣) : «استوى من اعوجاج ، واستوى على ظهر دابّته أي : استقرّ ، واستوى إلى السّماء أي قصد ، واستوى أي : استولى ، وظهر ؛ قال الشاعر : [الرجز]
٢٤٨٤ ـ قد استوى بشر على العراق (٤)
واستوى الرّجل أي : انتهى شبابه ، واستوى الشّيء أي : اعتدل ، وحكى ابن عبد البرّ عن أبي عبيدة في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قال : «علاه».
قال الشّاعر : [الطويل]
٢٤٨٥ ـ وقد خلق النّجم اليمانيّ واستوى (٥)
أي : علا وارتفع.
قال القرطبيّ (٦) : فعلوّ الله ـ تعالى ـ وارتفاعه عبارة عن علوّ مجده ، وصفاته ، وملكوته أي : ليس فوقه فيما يجب له من تعالي الجلال أحد [ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه لكن العليّ بالإطلاق سبحانه].
فصل في تأويل الآية
قال ابن الخطيب (٧) اعلم أنّه لا يمكن أن يكون المراد من الآية كونه مستقرّا على العرش ، ويدلّ على فساده وجوه عقليّة ونقليّة : أمّا العقليّة فأمور :
أحدها : أنّه لو كان مستقرّا على العرش لكان من الجانب الّذي يلي العرش متناهيا ، وإلّا لزم كون العرش داخلا في ذاته ، وهو محال وكل ما كان متناهيا فإنّ العقل يقتضي بأنّه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرّة ، والعلم بهذا الجواز ضروريّ ، فلو كان الباري ـ تعالى ـ متناهيا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزّيادة والنّقصان ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين ؛ لتخصيص مخصّص وتقدير مقدّر ، وكل
__________________
(١) وهذا هو الذي ندين به لله ـ عزوجل ـ ونحشر عليه يوم القيامة.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٤١.
(٣) ينظر : تهذيب اللغة ١٣ / ١٢٣.
(٤) تقدم برقم ٣٤٦.
(٥) تقدم برقم ٣٤٥.
(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٤١.
(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٣.