قال الحسن : بين دعوة السّرّ ، ودعوة العلانية سبعون ضعفا (١) ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدّعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إلّا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أنّ الله يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، وإنّ الله ذكر عبده زكريا ، ورضي فعله فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣].
وقال عليه الصّلاة والسّلام : «دعوة السّرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» (٢) ، وقال عليه الصّلاة والسّلام : «خير الذّكر الخفيّ» (٣) وروى أبو موسى الأشعريّ ـ رضي الله عنه ـ أنّهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبّرون ويهلّلون رافعي أصواتهم ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «اربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ، ولا غائبا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا وإنّه لمعكم» (٤).
واختلفوا في أنّ الأفضل الدّعاء خفية ، أو علانية؟ فقيل : الإخفاء أفضل لهذه الآية ولقوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] ، ولما تقدّم ، ولأنّه مصون عن الرياء.
وقال آخرون : العلانية أفضل ؛ لترغيب الغير في الاقتداء به.
وقال آخرون : إن خاف على نفسه الرّياء ؛ فالإخفاء أفضل وإلّا فالعلانية.
فصل في بيان شبهة منكري الدعاء
من النّاس من أنكر الدّعاء ، واحتج على صحّة قوله بوجوه :
الأول : أنّ المطلوب بالدّعاء إن كان معلوم الوقوع ، كان واجب الوقوع ؛ لامتناع وقوع التّغير في علم الله تعالى ، وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة ، وإن كان معلوم اللاوقوع ؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضا (٥).
الثاني : أنّه تعالى : إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء فهو حاصل سواء كان هذا الدّعاء أو لم يكن ، وإن كان أراد في الأزل ألّا يعطيه ، فهو ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الطّلب ، وإن قلنا : إنّه ما أراد في الأزل ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنّه
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٠٧).
(٢) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٢ / ٧٥) رقم (٣١٩٦) وعزاه لأبي الشيخ في «الثواب».
(٣) أخرجه أحمد (١ / ١٨٧) وعبد بن حميد (١٣٧) وأبو يعلى (٢ / ٨١ ـ ٨٢) رقم (١٣٧) وابن حبان (٢٣٢٣ ـ موارد) عن سعد بن أبي وقاص.
(٤) أخرجه البخاري ٧ / ٥٣٧ كتاب المغازي : باب غزوة خيبر (٤٢٠٥) وكتاب الدعوات ١١ / ٢١٧ باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله (٦٤٠٩) وأيضا كتاب الدعوات ١١ / ١٩١) باب الدعاء إذا علا عقبة (٦٣٨٤) وكتاب التوحيد (١٣ / ٣٨٤) باب وكان الله سميعا بصيرا (٧٣٨٦) وأخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ٥ / ٢٠٧٦ باب استحباب خفض الصوت بالذكر (٤٤ ـ ٢٧٠٤).
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٠٤.