الحقائق غير موجودة ، ولا حاصلة ، وحينئذ يجب إضمار الخبر فنقول : هذا الكلام بناء على أنّ الماهيّة لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها ، وذلك باطل قطعا ، إذ لو كان الأمر كذلك ؛ لوجب امتناع ارتفاع الوجود ؛ لأنّ الوجود أيضا حقيقة من الحقائق ، وماهيّة من الماهيّات ؛ فوجب ألا يرتفع الوجود أيضا ، فإن أمكن ارتفاع الوجود مع أنّه ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيّات.
فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله
دلّ ظاهر الآية على أنّ الإله هو الذي يستحقّ العبادة ؛ لأن قوله : «اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام ، فكان المعنى : اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره ، حتى يتطابق النّفي والإثبات ، ثم ثبت بالدّليل أنّ الإله ليس هو المعبود ، وإلّا لوجب كون الأصنام آلهة ، وألّا يكون الإله إلها في الأزل ؛ لأنّه في الأزل غير معبود ، فوجب حمل لفظ الإله على أنّه المستحقّ للعبادة.
قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
اختلفوا في معنى قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) هل هو اليقين؟ أو الخوف بمعنى الظنّ والشكّ؟ فقيل : المراد : الجزم واليقين ؛ لأنّه كان جازما أنّ العذاب ينزل بهم : إمّا في الدّنيا ، وإمّا في الآخرة ، إن لم يقبلوا الدّعوة.
وقيل : بل المراد منه الشّكّ لوجوه :
[أحدها] : إنّما قال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ ؛) لأنّه جوّز أن يؤمنوا ، وأن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التّجويز لا يكون قاطعا بنزول العذاب ، فلهذا قال : «أخاف عليكم».
وثانيها : أنّ حصول العذاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسّمع ، فلعلّ الله ـ تعالى ـ ما بيّن له كيفيّة هذه المسألة ، فلا جرم جوّز أنّ الله ـ تعالى ـ هل يعاقبهم أم لا؟.
وثالثها : يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر ، كقوله في الملائكة : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) [النحل : ٥٠] أي يحذرون المعاصي خوفا من العقاب.
ورابعها : أنه بتقدير أن يكون قاطعا بنزول العذاب لكنّه ما كان عارفا بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشّك راجعا إلى وصف العذاب لا في أصل حصوله ، والمراد بذلك العذاب إمّا عذاب يوم القيامة ، أو عذاب الطّوفان (١).
فإن قيل : إنه تعالى حكى عن نوح ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ في هذه الآية أنّه أمر قومه بثلاثة أشياء :
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٢.