فإن قيل ما الفائدة في سؤال الرّسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؟
فالجواب : لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتّة التحق التّقصير كله بالأمّة ، فيتضاعف إكرام الله تعالى للرّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التّقصير ، ويتضاعف الخزي والإهانة في حقّ الكفّار ، ولما ثبت أنّ ذلك التّقصير كان منهم.
قوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧)
والمعنى : أنّه بيّن للقوم ما أسرّوه ، وما أعلنوه من أعمالهم ، وبيّن الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال.
وقوله : «بعلم» في موضع [الحال] من الفاعل ، و «الباء» للمصاحبة أي : لنقصن على الرّسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم. ثم أكّد هذا المعنى بقوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي : ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم ، وذلك يدلّ على أنّ الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيّات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وبين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨] فالجواب من وجوه :
أحدها : أنّ القوم لا يسألون عن الأعمال ؛ لأنّ الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدّواعي التي دعتهم إلى الأعمال ، وعن الصّوارف التي صرفتهم.
وثانيها : أنّ السّؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التّوبيخ كقول القائل : «ألم أعطك» وقوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] وقول الشاعر : [الوافر]
٢٤٠٤ ـ ألستم خير من ركب المطايا |
|
.......... (١) |
فإذا عرف هذا فنقول : إنّ الله عزوجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد ، ويسألهم لأجل توبيخ الكفّار وإهانتهم ، ونظيره قوله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) ثم قال : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١].
فإن الآية الأولى تدلّ على أنّ المسألة الحاصلة بينهم إنّما كانت على سبيل أنّ بعضهم يلوم بعضا لقوله : «وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون» ، وقوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، معناه : أنّه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشّفقة واللّطف ؛ لأن النّسب يوجب الميل والرّحمة والإكرام.
__________________
(١) تقدم.