فصل في بيان المشيئة
استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر (١) ، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير.
فأمّا وجه استدلال أهل السنة فمن وجهين :
الأول : قوله : «إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجّانا الله منها» [يدل على أن المنجي من الكفر هو الله ـ تعالى ـ ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله «بعد إذ نجّانا الله منها»](٢).
الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، وتلك الملة كفر ، فكان هذا تجويزا من شعيب ـ عليهالسلام ـ أن يعيدهم إلى الكفر (٣).
قال الواحدي (٤) : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ؛ ألا ترى إلى قول الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وكان محمد صلىاللهعليهوسلم يقول : «يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك وطاعتك» (٥). وقال يوسف ـ عليهالسلام ـ : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) [يوسف : ١٠١].
وأجاب المعتزلة بوجوه (٦) :
أحدها : أن قوله : «ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [الله] أن يعيدنا إليها قضية [شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء.
وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد](٧) كما يقال : لا أفعل ذلك إلّا إذا ابيضّ القار وشاب الغراب ، فعلّق شعيب ـ عليهالسلام ـ عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلا على طريق التبعيد لا على وجه الشرط.
وثالثها : قوله : «إلا أن يشاء الله» ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزا كان مرادا لله ـ تعالى ـ ، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مرادا لله ـ تعالى
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٥.
(٢) سقط من ب.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٥.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٥.
(٥) أخرجه مسلم ٤ / ٢٠٤٥ ، كتاب القدر : باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (١٧ / ٢٦٥٤) وأخرجه الترمذي ٤ / ٣٩٠ ـ ٣٩١ كتاب القدر : باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن (٢١٤٠) وقال : وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمر وعائشة ، وهذا حديث حسن ، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس ، وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
(٦) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٤٥.
(٧) سقط من أ.